يتجه العالم بمجمله إلى الديمقراطية الانتخابية، وجرت في السنوات الأخيرة انتخابات نيابية وبلدية ونقابية في بلدان كانت هي الأولى في تاريخها، وبما أن الديمقراطية هي نظام غربي تشكل على مدى التاريخ حول الأنظمة الاقتصادية والسياسية التي نشأت في الغرب، وهذا لا ينفي بالطبع نماذج العدالة والمشاركة التي تحققت في حضارات أخرى والتي تتفق مع جوهر الديمقراطية فإنه سيبقى مهما دراسة وملاحظة تطور الأنظمة والنماذج الديمقراطية في الغرب.
وقد بدأت تتشكل حول اقتصاد المعرفة والمعلوماتية أنظمة سياسية وديمقراطيات جديدة مختلفة عما ألفناه في الغرب على مدى القرنين الماضيين، وسيكون مهما ملاحظة هذه التحولات التي تغير من الفكرة النمطية السائدة عن الديمقراطية، فاليوم تتشكل ليبرالية سياسية جديدة مختلفة عن الليبرالية التي نشأت معارضة للديمقراطية الجمهورية، ويمكن وصفها بالليبرالية التنموية، وهو نموذج يحاول أن يدمج بين العدالة الاجتماعية وبين نظام السوق، وهو أمر يجب أن ينتبه إليه الليبراليون في بلادنا والذين يتحولون في الحقيقة إلى محافظين جدد تحت مسمى الليبرالية.
لقد نشأ الفكر الليبرالي في بيئة معقدة من الأحداث والتحولات؛ الصراعات وتغييرات التكنولوجيا، وانتشار علاقات التجارة، وحركات التمرد الفلاحية، وترسخ أنظمة حكم قومية، والتأثير المتزايد لثقافة النهضة، والصراعات الدينية، وحركات الإصلاح الديني. وكانت الديمقراطية الليبرالية قائمة على فلسفة أن المواطنين بحاجة إلى الحماية من الحكام، والحماية من بعضهم البعض، ولذلك فإنها تنجح ضمن شروط سياسية واقتصادية قائمة على الفصل بين السلطات، ووجود مجتمع مدني فاعل وقوي ومنفصل عن الدولة، والملكيات الخاصة واقتصاد السوق التنافسي وحدود إقليمية موسعة للدولة القومية.
ثم طورت الديمقراطية الليبرالية نفسها من مفهوم الحماية إلى التنمية، وذلك على أساس الفردية والتمايز الاجتماعي والتعددية وإزالة العوائق التي تحول دون مشاركة المرأة والمجموعات الاقتصادية والاجتماعية والإثنية في الحياة السياسية، فالمشاركة السياسية ليست ضرورية فقط لحماية الأفراد، بل ولإيجاد كتلة مواطنين مطلعة ملتزمة ومتطورة، وتقوم هذه الديمقراطية على سيادة شعبية مع حق الانتخاب العام والحكم التمثيلي والضوابط الدستورية لضمان فرض حدود على سلطة الدولة وترسيخ الحقوق الفردية وبخاصة حرية الفكر  والشعور والذوق والنقاش والنشر، ورسم حدود واضحة بين المجلس البرلماني والجهاز الإداري العام، ومشاركة المواطنين في مختلف فروع الحكم، وتتشكل هذه الديمقراطية في بيئة قائمة على المجتمع المدني المستقل، واقتصاد السوق القائم على المنافسة، والتحرير السياسي للمرأة، ومنظومة دول قومية ذات علاقات متطورة بين الدول.
ما الجديد في هذه الديمقراطية؟ وما الاختلاف عن الديمقراطيات السابقة؟ نحن نتحدث عن نموذج لم يتبلور في الغرب بوضوح ونضج إلا في أواخر القرن العشرين، فالتحولات الاقتصادية الكبرى القائمة على الانتقال من الصناعة إلى المعرفة وما تبعها من صعود جديد لاقتصاديات وثقافات وأفكار حول أنظمة المعرفة والاتصالات والإنترنت غيرت كثيرا من دور وأهمية النخب والمجموعات المختلفة، فقد زادت فرص المرأة في العمل والتقدم، وزادت أهمية الأفراد على الشركات والمجتمعات، ووجدت الثقافات والمجموعات الإثنية فرصا جديدة في التشكل والحضور السياسي والاجتماعي، ولكن ما الذي يعنينا من ذلك في الأردن ونحن نستعد للانتخابات النيابية والبلدية؟
إن الانتخابات تنجح بمدى ملاءمتها وتكيفها مع الشروط والبيئة الاقتصادية والاجتماعية المحيطة بها، ونحتاج للتوقف كثيرا عند نتائج الانتخابات السابقة والعوائق الموضوعية التي تجعل من الانتخابات غير ذات تأثير حاسم في الوجهة الاقتصادية والاجتماعية. فالأصل في الانتخابات أنها تعيد تركيب وتفكيك النخب والاتجاهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أيضا، وإذا لم تكن النخب القائمة والمؤثرة في الحياة السياسية والاقتصادية غير قادرة على النجاح في الانتخابات فهذا يعني بالتأكيد أنها منفصلة عن المجتمع وأن صراعا عميقا يجري بين المجتمعات وبين النخب والمؤسسات الاقتصادية والسياسية.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  ابراهيم غرايبة   جريدة الغد