ثمة نوع من الدببة يعيش في الغابات الاستوائية يتغذى على حبوب البن، ثم يعيد اجترارها ويلفظ البذور. وهذه البذور المجترة تعد أفضل أنواع البن، ويجري جمعها ثم تباع بمعدل150 دولارا للكيلوغرام الواحد!
والحالة تصلح للتأمل والاقتباس في الأفكار ومعالجتها، فالمعارف والخبرات تتشكل وفق معادلة من العمل والبحث والتفاعل والإبداع، والأسرار أيضا، فذلك الدب يضيف باجتراره لبذور البن مزايا إضافية تجعلها مفضلة في طعمها وجودتها.
والاجترار ليس هو التكرار كما يتداول في التفكير النمطي، ولكنه يعبر عن معالجة للموارد والأفكار تجعلها أكثر أهمية وفائدة. وقد يكون هذا الرأي مفيدا للمثقفين والمهنيين الذين يجمعون كثيرا من المعارف والقراءات والخبرات والتجارب في عملهم وحياتهم لكنهم يحتاجون إلى إعادة هضمها وتنظيمها لتأخذ موقعها الصحيح المفترض في التطوير وخدمة الآخرين وفائدتهم، ففي مرحلة أو جزء من الحياة يتم التركيز على تلقي المعارف والمعلومات، وغالبا بقدر كبير من الكثافة والتركيز، وحتى لا تضيع فائدتها أو تتحول إلى عبء وضرر فإننا بحاجة دائمة إلى مرحلة من الاسترخاء والمعالجة الهادئة لهذه المعارف والتجارب.
وربما يكون من أفضل عمليات الاجترار وأكثرها جدوى وفائدة أن تتحول الزيارات واللقاءات المسترخية بعد العمل في البيوت والمقاهي إلى حوارات هادئة منظمة، يستعيد فيها المشاركون قراءاتهم وخبراتهم، ويتشاركون في عرضها ونقدها وتقويمها. فالحوار دائما يضيف إلى الأفكار المتحصلة قيمة إضافية نادرة، وقد يصعب تحصيلها بالقراءة والاطلاع والعمل، لكن لحظة من الحوار تجعل هذه المعرفة ذات قيمة نادرة. وغالبا ما تكون أفضل الأفكار والإنجازات ناتحة عن الحوار العفوي والمشاركة التلقائية مع الأصدقاء والزملاء.
وفي عمليات التثقيف والبحث العلمي، فإن 18% من المصادر والمعلومات والمعارف التي يحصل عليه الباحثون لم يكن مخططا له، وإنما أمكن الوصول إليه أثناء العمل والبحث من دون تخطيط أو إدراك مسبق، ولكنه بالطبع لم يكن ممكنا تحصيله لولا عملية البحث والاطلاع الجارية بالفعل.
وفي محاور تشكيل الثقافة والمعرفة وبناء المهن، تعترف الدراسات المتخصصة بنوعين من مصادر البناء المعرفي يطلق عليهما ( every day and browsing)؛ اي المصادر والخيرات المتأتية من الحياة اليومية، مثل اللقاءات وأنشطة الحياة المختلفة في الفهم والثقافة، والمشاهدات والاستماع والملاحظة، والوسائل غير المقصودة وغير المباشرة؛ والثقافة والمعارف المتأتية من مطالعة الصحف والاستماع والقراءة غير المنهجية.
لكن هذين المصدرين لا يأتيان إلا مع مصدرين تقليديين للبناء والتثقيف، هما (exhaustive and current) القائمان على القراءة المنهجية المنظمة، والعمل المتواصل في البحث والإطلاع، والمتابعة الجارية والمستمرة بالإطلاع على الدرويات والكتب والدراسات التي تصدر أولاً بأول، ومعرفة الإصدرات والكتب الجديدة، وزيارة المكتبات التجارية والعامة بانتظام.
وهناك نوع من الخدمات المعرفية التي يجري تقديمها يشبهها الأديب الكبير إبراهم المازني بخزان البلدية الذي يتلقى المياه ويخزنها ويوزعها على المستفيدين. وهي خدمات على ضرورتها وأهميتها تنطبق على نوع من الخدمات المعرفية التي لا يجوز أن تمتد إلى الكتابة والإبداع والتخصص المهني والثقافي، ولكنها تصلح للاقتباس في نماذج الأخبار والخدمات المعلوماتية اليومية التي يحتاجها ويبحث عنها الناس، ولكنها أيضا ليست كافية ولا يصح أن يقتصر عليها العمل المعرفي.
وفي مرحة التحولات والتراكمات المعرفية الكبرى، فإن التعليم الذاتي المستمر يصبح ضرورة للبقاء في المهن وفي الحالة المعرفية والثقافية. فنصف ما يتعلمه المهندس، على سبيل المثال، يصبح بعد خمسة أعوام وقد عفا عليه الزمن، وتظهر معارف وخبرات وتقنيات في أثناء ذلك تجعله من دون الإحاطة بها يكاد يفقد مهنته. وكذلك الحال في الطب والثقافة والتعليم والأدب والأفكار والأعمال، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  ابراهيم غرايبة   جريدة الغد