يمثل البروفيسور الأميركي اليهودي نعوم تشومسكي حالة متقدمة في نقد الإمبريالية والعولمة والاحتلال من داخل هذه المنظومة نفسها، وتجد فيه الحركات الاجتماعية ملاذا يدافع عنها ويقدم أفكارها في محافل لا تصل إليها، وفي كتابه "طموحات إمبريالية" الذي صدر مؤخرا، وهو عبارة عن مجموعة من المقابلات أجراها ديفد برساميان حول غزو العراق واحتلاله، ومذهب الضربات الأميركية الاستباقية، والدول المارقة، والتهديد المتنامي الذي يشكله الاندفاع الأميركي نحو الهيمنة على السلام الدولي، ونظام الدعاية الأميركي الذي يختلق الماضي الخرافي، وينشر الوقائع غير الملائمة من التاريخ.
ويعتقد تشومسكي أن أوروبا ومنطقة شرق آسيا بدأتا تحتلان مركزا اقتصاديا عالميا مهما لا يقل أهمية عن مركز الولايات المتحدة الأميركية، ولكنها مجموعات اقتصادية مرتبطة ببعضها ولديها مصالح مشتركة، وإن كان لكل منها مصالح منفصلة.
طالما كان للولايات المتحدة الأميركية موقف متناقض تجاه أوروبا، فهي تريد أوروبا موحدة تكون سوقا أكثر كفاءة للشركات الأميركية تقدم مزايا الحجم الكبير، لكنها تخشى دائما التهديد الناجم عن احتمال تحرك أوروبا في اتجاه آخر، ويتصل بذلك انضمام العديد من دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي. فالولايات المتحدة تؤيد عملية الانضمام هذه لأنها تأمل أن تكون هذه البلدان أكثر عرضة للنفوذ الأميركي، وأن تتمكن من تقويض نواة أوروبا، وهي فرنسا وألمانيا.
وتبدي الولايات المتحدة رفضها للنظام الاجتماعي في أوروبا القائم على الأجور والعوائد المحترمة للعمال، وبالطبع فإن نظام الأجور المتدنية وقمع العمالة في أوروبا الشرقية يساعد في تقويض المعايير الاجتماعية في أوروبا الغربية، وسيكون ذلك مفيدا للولايات المتحدة.
وبرأي تشومشكي فإن سياسية المجموعة الحاكمة في الولايات المتحدة للسنوات القادمة (حتى عام 2008 والمقصود الحقبة الجمهورية المحافظة والأصولية) تبدو قائمة على مأسسة سلسلة من البرامج الشديدة الرجعية، من عجز هائل شبيه بما فعلوه في الثمانينيات (الحقبة الريغانية) وتقويض البرامج الاجتماعية، وتقليص الديمقراطية، وسيكون الإرث الذي سيخلفونه صعبا في الداخل.
وعلى الصعيد الدولي يأمل الأصوليون اليمينيون الجدد مأسسة مذاهب الهيمنة الإمبريالية من خلال القوة والحروب الوقائية المنتقاة، فالولايات المتحدة متفوقة عسكريا، وتأمل المجموعة المهيمنة عليها اليوم أن تتحرك في اتجاهات خطرة، مثل عسكرة الفضاء استنادا إلى القوة الطاغية بصرف النظر عما يحل بالاقتصاد.
وهناك بالطبع نضالات أميركية سياسية واجتماعية لمواجهة هذه الطموحات الإمبريالية، يقول تشومسكي، ولكن تبدو مكاسبها ضئيلة، ولكنها طبيعة هذه الحركات والدعوات، فلنتذكر دعوات إلغاء الرق كم احتاجت من وقت، وقد أمكن بالفعل إنجاز أعمال وبرامج للسلام والعدالة..
يتساءل تشومسكي لماذا يواجه نشطاء العدالة الاجتماعية في الولايات المتحدة دائما بسؤال مثل "ما الذي علينا أن نفعله؟" وهو سؤال لا يطرح في العالم الثالث بل الناس هناك يخبرونك بما يفعلونه، ومن الملفت للاهتمام في الولايات المتحدة اليوم أن معارضي سياساتها هم من الأساتذة والكبار بعد أن كان المعارضون لحربها في فيتنام في الستينيات من الشباب وطلاب الجامعات.
فهل يعني ذلك أن معارضة الحرب قد ولت إلا من بقايا معارضيها أنفسهم في الستينيات؟ يفسر تشومشكي ذلك بأن حملة الستينيات بدأت بعد سنوات من الجهود القاسية وغير الملحوظة لتتحول إلى حركة شبابية ومجتمعية كبيرة، وهو ما يتوقع حدوثه في الولايات المتحدة، ولكن ثمة حملة إعلامية وسياسية إغراقية لعدم الإقرار بالتاريخ الفعلي، ولأجل ألا تدرك أن الجهد المتفاني والملتزم يمكن أن يحدث تغييرات كبيرة، وتلك فكرة خطيرة يجري محوها من التاريخ.
ويبقى سؤال: هل يمثل تشومسكي دليلا على إدانة السياسات الأمريكية فقط؟ أم أنه يمثل أيضا حالة من الثراء الحضاري والديمقراطي للولايات المتحدة التي تشجع ظاهرة تشومسكي؟

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  ابراهيم غرايبة   جريدة الغد