بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد،
سنتحدث في هذا الدرس إن شاء الله عن موضوعين: الموضوع الأول عن التأمين، والثاني عن خطاب الضمان.
نبدأ بالموضوع الأول وهو التأمين:
والتأمين معناه أو تعريفه: نظام تعاقدي يقوم على أساس المعاوضة أو التبرع، يعني التأمين بأنواعه نظام تعاقدي يقوم على أساس المعاوضة أو التبرع أو مختلطا منهما، يلتزم فيه طرف لآخر بتعويض نقدي يدفعه له عند حصول حادث ونحوه، عند تحقق حادث ونحوه.
وقد أصبح هذا المصطلح معروفا وشائعا، بل ومطبقا في جميع دول العالم. وينقسم إلى قسمين: تأمين تعاوني ويسمى: تبادلي وتأمين تجاري.
ولم يكن التأمين بوضعه المعروف الآن موجودا عند الفقهاء المتقدمين، ولهذا اعتبر من النوازل في هذا العصر، وإن كان ابن عابدين قد أشار إلى بعض أنواعه في حاشيته: رد المحتار على الدر المختار، ولكن عند الفقهاء المتقدمين لا يوجد له ذِكْر، ومن هنا اختلف العلماء المعاصرون في حكمه، فبعض أهل العلم ذهب إلى الجواز مطلقا، إلى أن التأمين جائز بجميع أنواعه، سواء كان تجاريا أو تعاونيا، ومن أبرز مَن ذهب إلى هذا الرأي الشيخ مصطفى الزرقا - رحمه الله -.
وجميع الذين أفتوا بالجواز هم عالة عليه، بل إن مصطفى الزرقا هو أول من أفتى بجواز التأمين مطلقا، وكل الذين أفتوا بعده بالجواز هم عالة عليه، ويرددون فقط أدلته، وله كتاب مطبوع منشور ذَكَرَ وجهتَه في هذا.
والقول الثاني عدم جواز التأمين مطلقا، سواء كان تجاريا أو تعاونيا، قال به بعض أهل العلم، وإن كانوا قلة، ولذلك بعضهم يعتبر أن القول بمنع التأمين التعاوني أنه شاذ، ويَحكي الاتفاق على جواز التأمين التعاوني.
والقول الثالث تحريم التأمين التجاري وجواز التأمين التعاوني.
القول الثالث فيه تفصيل، فيحرم التأمين التجاري ويجوز التأمين التعاوني، وهذا القول هو قول أكثر العلماء المعاصرين، وقد اتفق على هذا القول المجامع الفقهية: مجمع الرابطة؛ المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، وكذلك أيضا مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وهيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، كلها متفقة على هذا الرأي، والتفريق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني، فيحرم التأمين التجاري ويجوز التأمين التعاوني.
ونأتي الأدلة، نبدأ بأدلة تحريم التأمين التجاري، نبدأ بالقول الثالث فنقول: التأمين التجاري محرَّم؛ وذلك لِما يأتي:
أولا: اشتماله على الغرر الفاحش، فهو من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية المشتملة على الغرر، فالمستأمِن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد ما له وما عليه، ومقدار ما يأخذ ويعطي، فقد يدفع قسطا أو قسطين ثم يحصل له الحادث، فيأخذ أكثر مما دفع، وقد لا يحصل له حادث أصلا فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئا.
وكذلك أيضا بالنسبة للمؤمِّن، لا يعرف ما له وما عليه، فقد يربح كثيرا في علاقته مع هذا المستأمِن، وقد يخسر، ولا شك أن الغرر فيه ظاهر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغرر كما في صحيح مسلم.
ثانيا: أيضا من أدلة تحريم التأمين التجاري أنه من ضروب المقامرة؛ لِما فيه من المخاطرة في المعاوضات المالية، فإن المستأمِن قد يدفع قسطا من التأمين ثم يقع الحادث فيغرم له المؤمِّن كل مبلغ التأمين، وقد لا يقع الخطر فيغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل، وهذا من ضروب المقامرة.
ثالثا: - أن عقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنسيئة؛ لأن المؤمن من الشركة ونحوها إذا دفعت للمستأمن أكثر مما دفعه لها من النقود فيكون ربا فضل؛ لأنه مال بمال مع التفاضل، وهذا الدفع إنما يحصل بعد مدة من العقد، فيكون ربا نسيئة، وإذا قُدِّر أن الشركة دفعت لهذا المستأمن مثلما دفع من غير زيادة ولا نقصان فيكون فيه ربا نسيئة فقط.
أيضا مما اشتمل عليه هذا العقد من المحاذير أنه من الرهان المحرم، أن عقد التأمين التجاري من الرهان المحرم؛ لأن فيه جهالة وغرر ومقامرة، ومعلوم أن الشرع لم يبح من الرهان إلا ما كان فيه نصرة لإعلام الإسلام وأدلته وبرهانيه. كما مر معنا هذا في درس سابق.
وكذلك أيضا إذا كان في الإبل والخيل والسهام، لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر.
أيضا عقد التأمين التجاري فيه أخذ للمال بغير مقابل، وهو محرم، أخذ المال بدون مقابل محرم، وقد قال الله - تعالى -: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ".
هذه هي وجوه تحريم التأمين التجاري
وأما التأمين التعاوني فإنه يبذل على وجه التكافل والتعاون وليس على وجه المعاوضة وطلب الربح، وما كان كذلك فإن الشريعة تجيزه، ويدل لذلك قصة الأشعريين، أو حديث الأشعريين، الذين أثنى عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم إذا أصابتهم نائبة من نوائب الدهر، إذا أصابتهم نائبة وشدة وحاجة جمعوا ما عندهم وتقاسموه، وهذا نوع من أنواع.. وهذا في الحقيقة هو شبيه بالتأمين التعاوني.
وأيضا العاقلة في الإسلام هي أيضا بمثابة أو شبيهة بالتأمين التعاوني، العاقلة، ما معنى العاقلة؟ يعني إذا تسبب الإنسان في قتل خطأ أو شبه عمد فإن عاقلته يعني قرابته من جهة العصوبة هي التي تدفع عنه الدية، ملزمة شرعا بأن تدفع عنه الدية، جبرا ليس اختيارا، فكل واحد.. يعني فإذا اجتمعت هذه العاقلة ودفعت الدية كل واحد من العاقلة قد يحتاج لمثل هذا، فيشبه أن يكون هذا يعني مثل التأمين التعاوني.
ثم أيضا إذا نظرنا إلى قاعدة الشريعة نجد أن الشريعة تتسامح فيما كان مبنيا على الإرفاق والإحسان والتكافل والتعاون. وعلى سبيل المثال القرض، فإن صورة القرض في الأصل صورة ربوية؛ لأنها معاوضة مال بمال مع عدم التقابض، ولكن الإسلام أجاز هذه الصورة إذا كانت مبنية على الإرفاق والتكافل والإحسان، وهو القرض، ولذلك إذا أصبح القرض يراد به الربح والمنفعة والعوض رجع لصورته في الأصل فكان محرما.
فنعرف من هنا أن قاعدة الشريعة التسامح فيما كان مبنيا على التكافل والتعاون، فنجد أن الشريعة أجازت هذه الصورة، مع أنها في الأصل صورة ربوية، القرض في الأصل صورة ربوية، ولكن الشريعة أجازتها تشجيعا للمجتمع المسلم على التكافل والتعاون فيما بينهم.
ولذلك فهناك فرق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني، هذه هي وجهة إذن أصحاب هذا القول.
وأما من أجاز التأمين التجاري فمن أبرز أدلتهم في هذا:
أولا: أن التأمين فيه مصلحة كبيرة، وما يوجد فيه من الغرر مغتفر بجانب المصلحة الكبيرة؛ فإن بعض العقود أجازتها الشريعة مع أن فيها غررا لما يترتب عليها من المصالح الكبيرة، كالجعالة مثلا، فإن الجعالة فيها غرر وجهالة، ولكن الشريعة أجازتها لما فيها من المصلحة.
قالوا: فكذلك التأمين فيه مصلحة كبيرة، والدليل على ذلك اتفاق جميع دول العالم على الأخذ بهذا النظام، مما يدل على أن جميع العقلاء يرون أن فيه مصلحة.
وأجيب عن هذا بأن هذا الاستدلال غير صحيح؛ لأن مصالح الشرع على ثلاثة أقسام: قسم شهد الشرع باعتباره، فهو حجة. وقسم سكت عنه الشرع فلم يشهد له باعتبار ولا بإلغاء، فهو مصلحة مرسلة، وهو محل اجتهاد. والقسم الثالث ما شهد الشرع بإلغائه.
وعقود التأمين فيها محاذير شرعية ذكرت في أدلة القول الأول، فتكون من القسم الثالث، تكون مما شهد الشرع بإلغائه؛ لغلبة جانب المفسدة على جانب المصلحة.
الدليل الثاني من أدلة القائلين بالجواز: قياس نظام التأمين التجاري على العاقلة، وقالوا: العاقلة ضرب من ضروب التأمين. إذا كانت العاقلة تجوز فالتأمين مطلقا يجوز ولا نخصه بالتأمين التعاوني.
وأجيب عن هذا الاستدلال بأن هذا القياس قياس مع الفارق؛ لأن الأصل في تحمل العاقلة للدية لما يكون بين أفراد العاقلة من الرَّحِم والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون وبَذْل المعروف، ولو بدون مقابل، فهي إذن مبنية على التكافل والتعاون بين أفراد العاقلة، وليست مبنية على الربحية والمعاوضة، بينما عقود التأمين عقود تجارية استغلالية تقوم على معاوضات مالية محضة، ولا تمت إلى عاطفة الإحسان وبواعث الرحمة والمعروف بصلة.
فرق كبير بين العاقلة وبين عقود التأمين التجارية؛ وبهذا لا يستقيم هذا الاستدلال.
أيضا من أبرز أدلة القائلين بالجواز قياس عقود التأمين التجاري على نظام التقاعد، قالوا: فإذا منعتم التأمين التجاري تقولون إذن بتحريم التقاعد، تقولون بتحريم معاشات التقاعد؛ لأن التقاعد ضرب من ضروب التأمين، فإنه يؤخذ من الموظف كل شهر قسط ثم يسلم له بعد تقاعده، وقد يحصل على أكثر مما بذل، وقد يحصل على أقل، قالوا في نظام التقاعد: هو من ضروب التأمين، فيلزمكم أنتم إذا قلتم - يعني أيها الجمهور - إذا قلتم بتحريم التأمين التجاري أن تقولوا أيضا بتحريم نظام التقاعد.
ولكن هذا الاستدلال أيضا محل نظر؛ لأن هذا القياس قياس مع الفارق؛ لأن ما يعطى الموظف بعد التقاعد حق التزم به ولي الأمر، باعتباره مسئولا عن رعيته، وراعى في صرفه ما قام به الموظف من عمل وخدمة، ووضع فيه نظاما راعى فيه مصلحة أقرب الناس للموظف أيضا، ونظر فيه إلى مظِنة الحاجة.
وثم أيضا إن التقاعد تتبرع الدولة بنصف المبلغ، يعني يستقطع من الموظف نصف المبلغ، والدولة تتبرع بنصف المبلغ الآخر، فليست معاوضة مالية محضة، وإنما هو حق التزمت به الدولة تجاه موظفيها.
وهذا بخلاف التأمين التجاري الذي يقوم على المعاوضة المحضة، وتريد أو تقصد منه الشركات الحصولَ على الأرباح والكَسْب، ففرق بينهما، ولذلك لا يصح مثل هذا القياس.
ثم إن الموظف إذا أراد تصفية حقوقه قبل بلوغه سن التقاعد، تصفى له كامل حقوقه، ويعطى ما اقتطع منه، ولكنه إذا بقي إلى انتهاء المدة النظامية، فإنه يعطى ما اقتطع منه وتبرع أيضا من الدولة لهذا الموظف، وإذا توفي فيصرف لورثته بطريقة روعي فيها مسألة احتياج الورثة، فإذن قياس التأمين التجاري على نظام التقاعد قياس مع الفارق.
أيضا من أدلة القائلين بالجواز قياس عقود التأمين التجاري على عقود الحراسة، قالوا: فكما أنك إذا استأجرت لك حارسا يحرس البيت أو الطريق، فإنك تعطيه مالا مقابل الأمان، فإن هذا الحارس إنما فقط استفدت منه الأمان، هكذا أيضا في عقود التأمين التجاري تستفيد ببذل هذا المال الذي تدفعه للشركة الأمان، عندما يحصل لك حادث ونحوه. فإذا جاز بذل المال على عقود الحراسة لأجل الأمان فيجوز بذل المال لشركات التأمين لأجل الأمان.
ولكن هذا القياس أيضا قياس مع الفارق؛ فإن الأمان ليس محلا للعقد في المسألتين، وإنما محله في التأمين الأقساط. ومبلغ التأمين ومحله في الحراسة الأجرة وعمل الحارس، هذا هو محل العقد: الأجرة وعمل الحارس، وأما الأمان فليس محلا للعقد، وإنما هو غاية ونتيجة، ولو قلنا: إن الأمان هو محل العقد لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس، والواقع أن الحارس يستحق الأجرة مطلقا، وهذا يدل على أن الأمان ليس هو محل العقد في المسألتين جميعا؛ في مسألة التأمين ليس محل العقد وإنما محله الأقساط ومبلغ التأمين، وفي مسألة الحراسة أيضا محل العقد ليس هو الأمان وإنما هو الأجرة وعمل الحارس.
هذه هي أبرز أدلة من قال بالجواز، وكما ترون أدلة لا تستقيم، وهذه الأدلة كلها ذكرها الشيخ مصطفى الزرقا في كتابه التأمين وتناقلها من بعده ممن قال بالجواز.
وبهذا يتبين القول الراجح في هذه المسألة والله أعلم، وما عليه جمهور العلماء المعاصرين، وهو التفريق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني، يكون التأمين التجاري محرما والتأمين التعاوني جائزا.
والتأمين التعاوني من أبرز صوره ما يسمى بصناديق الأسر والعوائد، فيوضع مثلا صندوق لأسرة من الأسر... وقام أراد يتبرع لهذا الصندوق بقسط شهري أو سنوي، وإذا حصل لأي واحد من أفراد الأسرة حادث أو مثلا حاجة ملحة أو نحو ذلك أخذ منه. هذا يعتبر من صور التأمين التعاوني، ولا بأس به.
أما التأمين الذي تمارسه الشركات الآن فهو في جملته تأمين تجاري وليس تعاونيا، وإن سَمَّوْه تأمينا تعاونيا؛ لأنه حتى يكون تأمينا تعاونيا لا بد أن يقصد به التعاون والتكافل، والواقع أن هذه الشركات ما قامت أساسا إلا لأجل طلب الربح والكسب، ولذلك فإنها بعيدة عن تحقيق التأمين التعاوني.
ولكن وجود مثل الشركات التي تحقق التأمين التعاوني ليس مستحيلا، ومع الأسف وجد في بلاد الغرب شركات تحقق التأمين التعاوني، وكان الأجدر أن توجد في بلاد المسلمين، لكن الشركات الموجودة لدينا الآن هي في جملتها تقوم على التأمين التجاري وليس التأمين التعاوني، ويفترض إذا قامت الشركة بالتأمين التعاوني أن تقوم فقط بإدارة أقساط التأمين، ولذلك التسمية الدقيقة لها أن نقول: شركات إدارة تأمين، ليست شركات تأمين، إدارة تأمين، فهي تأخذ إدارة الشركة فقط الأجرة على إدارة هذه الأقساط مقابل أتعاب فقط، إما أجرة ثابتة أو يعني بنسبة من الأقساط، لكن أنها تأخذ الأموال من هؤلاء المستأمنين ولا تعيدها لهم وتتملكها وتعتبرها وسيلة من وسائل الكسب والربح هذا هو التأمين التجاري، لكن لو وجدت شركة هي فقط تأخذ مقابل أتعابها، وأما أقساط التأمين فهي تعمل فيها وتستثمرها لصالح هؤلاء المستأمنين، فهذا هو التأمين التجاري، فتكون إدارة الشركة إنما فقط تدير هذه الأقساط.
والأكمل في هذا والأحسن ألا تُرجع الأقساط إلى المستأمنين، وأن تخلص منها شائبة المعاوضة المالية قدر المستطاع؛ لأنها إذا أُعيدت.. أُعيد الفائض إلى المستأمنين أصبح فيها معاوضة، فأكمل درجات صور التأمين التعاوني هو مثلما ذكرت ما تمثله صناديق الأسر والعوائد، بحيث لا تعاد الأقساط إلى المستأمنين، وإنما تستثمرها إدارة الشركة وتخفض الأقساط في المستقبل على هؤلاء، ويكون هذا.. هذه الأموال تستثمر لهؤلاء الذين بذلوا أموالهم على سبيل التكافل والتعاون فيما بينهم، وليس على سبيل يعني الربح والمعاوضة.
ولكن لو أعيد لهؤلاء المستأمنين بعض الأموال الفائضة فأيضا تكون من صور التأمين التعاوني إذا كانت الشركة إنما فقط تديرها إدارة، ولكن تبقى فيها شائبة المعاوضة، ونحن نقول: إن التأمين التعاوني كلما تخلصنا من شائبة المعاوضة كلما كان أكمل وأحسن؛ لأنه كما ذكرنا يقوم على الإرفاق والتكافل، ولا يقوم على المعاوضة وطلب الربح والكسب.
كما ذكرت الشركات في جملتها الآن الموجودة تمارس التأمين التجاري وليس التأمين التعاوني، ولكن مع الأسف أن بعض الشركات مع ممارستها للتأمين التجاري وتسميتها له بالتأمين التعاوني استغلت فتاوى العلماء للتغرير بالناس، فعلى سبيل المثال شركة من الشركات الكبرى في التأمين علقت فتوى هيئة كبار العلماء في التأمين التعاوني في مدخل الشركة وقالت: إنها تسير على هذه الفتيا، وقد نقل هذا إلى مشايخنا في دار الإفتاء في وقت سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -، وأصدروا في هذا بيانا، هذا البيان موقع من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وسماحة المفتي العام الآن الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، والشيخ عبد الله الغديان والشيخ صالح الفوزان والشيخ بكر أبو زيد، وجاء في هذا البيان:
سبق أن صدر عن هيئة كبار العلماء قرار بتحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه لما فيه من الضرر... إلى آخره، كما صدر قرار من هيئة العلماء بجواز التأمين التعاوني، وهو الذي يكون من تبرعات المحسنين ويقصد به مساعدة المحتاج والمنكوب، ولا يعود منه شيء للمشتركين؛ لا رءوس أموال ولا أرباح ولا أي عائد استثماري؛ لأن قصد المشترك ثواب الله - سبحانه -.
وهذا واضح لا إشكال فيه، ولكن ظهر في الآونة الأخيرة من بعض المؤسسات والشركات تلبيس على الناس، وقلب للحقائق، حيث سموا التأمين التجاري المحرم تأمينا تعاونيا، ونسبوا القول بإباحته إلى هيئة كبار العلماء؛ من أجل التغرير بالناس والدعاية لشركاتهم. وهيئة كبار العلماء بريئة من هذا العمل كل البراءة؛ لأن قرارها واضح في التفريق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني، وتغيير الاسم لا يغير الحقيقة، ولأجل البيان للناس وكشف التلبيس ودحض الكذب والافتراء صدر هذا البيان.
المفتي العام / سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز.
وعليه توقيع أعضاء اللجنة.
فهذا البيان صدر لأجل كشف هذا التلبيس الذي مارسته هذه الشركات، تمارس التأمين التجاري وتسميه التعاوني وتنسبه لهيئة كبار العلماء، وتغرر بالعامة، العامة ما يفرقون، يأتي وينظر إلى هذا القرار أو الفتوى ما يفرق، ما عنده يعني مجال للتدقيق والتأكد.
فينبغي يا إخوان التنبه والتنبيه على هذا، ونأمل أنه توجد في المستقبل إن شاء الله شركات للتأمين التعاوني، وهذا يحتاج في الحقيقة إلى فقهاء يقومون بصياغة نظام الشركة من الأساس حتى يكون تأمينا تعاونيا، أما أن الشركة تقوم ثم تريد أن تحول هذا التأمين إلى تأمين تعاوني، فهذا يكون صعبا؛ لأنه إذا قامت الشركة قامت على أساس طلب الربح والكسب، وهذا لا يتفق مع طبيعة التأمين التعاوني، التأمين التعاوني قائم على التكافل والإرفاق، فإذا قامت الشركة وهدفها الأساسي الكسب والربح هنا ترد الإشكالية.
والواقع أن الأنظمة التي صدرت من ولي الأمر هي بالتأمين التعاوني، فمثلا التأمين على السيارة الذي صدر بقرار مجلس الوزراء بتاريخ الثاني عشر من شهر شعبان 1428 هـ، جاء فيه الإلزام بالتأمين التعاوني تجاه الغير على رخص السائقين، وأيضا جاء في لائحة التأمين التي صدرت أن التأمين يكون تأمينا تعاونيا ومتوافقا مع الشريعة الإسلامية.
فالأنظمة كلها تنص على أن التأمين تعاوني، حتى التأمين الصحي أيضا منصوص على أنه تأمين تعاوني، فالخلل في التطبيق، وإلى الأنظمة كلها على التأمين التعاوني الذي لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، وهنا أؤكد على ما ذكرته سابقا من أن الأنظمة ليس فيها إشكالية، الأنظمة التي تصاغ ليس فيها إشكالية، مثلا ما ذكرته بالأمس نظام الأوراق التجارية ليس فيه إشكالية، بل فيه مادة: كل ما يتعارض مع الشريعة الإسلامية فهو ملغى، فالأنظمة التي تصاغ تصاغ بطريقة جيدة، ولكن الإشكالية تأتي من جهة التطبيق والتنفيذ، من هذه الحيثية.
لكن.. فنجد مثلا هنا قرار مجلس الوزراء واضح في أن الإلزام إنما هو بالتأمين التعاوني وليس التجاري، ولكن المطبق الآن هو التأمين التجاري؛ لعدم وجود شركات تطبق التأمين التعاوني، ولكن نأمل في المستقبل أن توجد وتقوم مثل هذه الشركات، خاصة إذا نشر الوعي بهذا، فإن انتشار الوعي مهم جدا لقيام مثل هذه الشركات، فإذا حصل توعية للمجتمع بمثل هذا فأظن أن هذه الشركات ستقوم في القريب إن شاء الله.
ولكن لا بد أيضا من نشر مثل هذا الكلام وتوعية المجتمع بمثل هذا، يعني كما مثَّلنا في الدروس السابقة بالشركات النقية والشركات المختلطة، لما حصل وعي عند المجتمع بهذا أصبحت الشركات النقية في تزايد، هكذا أيضا إذا أصبح وعي بالتأمين التعاوني وأنه هو المتوافق مع الشريعة، بخلاف التأمين التجاري فإنه يعني هذا الوعي ربما يتولد منه قيام هذه الشركات التعاونية.
ولكن عندما نريد أن نعالج الآن الوضع القائم، الآن التأمين أصبح إلزاميا، والشركات القائمة الآن تمارس التأمين التجاري، وإن أسمته تأمينا تعاونيا، فما الحكم في هذه الحال؟ نقول: لا حرج على الإنسان في الاشتراك في هذا التأمين باعتبار أنه ملزم ومجبر على هذا، لا حرج عليه، ولا يُلزم بالتهرب منه؛ لأن بعض الإخوة يحاول مثلا أن يتهرب من هذا التأمين، هذا فيه وقوع في الحرج، خاصة المسألة خلافية أيضا، وهذا مما يجعل المسألة أخف، فنقول: الدخول في هذا التأمين بهذه الطريقة، يعني مع هذا الإلزام، لا حرج فيه على المكلف، باعتبار أنه مجبر وملزم ويلحقه حرج لو لم يفعل ذلك.
ولكن إذا دخل في هذا التأمين باعتبار أنه مجبر، ووقع له حادث مثلا، ووقع له حادث، وألزم الطرف الآخر بأن يدفع له أو يتكفل بأن يدفع له يعني مقابل، التلف الحاصل في السيارة مثلا، وكان ما يدفعه له عن طريق شركة التأمين أكثر مما بذله، يعني مثلا دفع قسطين، ونفترض أنه بخمسمائة ريال، بعدما دفع قسطين حصل حادث سيارة فالتزمت شركة التأمين بأن تدفع تكاليف.. أو يعني التلف الحاصل من هذا الحادث، ولنفترض أنه ثلاثة آلاف ريال، وهنا الآن سيأخذ أكثر مما دفع، فما حكم هذا؟
اختلف العلماء في هذه المسألة، اختلف العلماء المعاصرون في هذه المسألة، فقال بعضهم: إنه ليس له أن يأخذ إلا بقدر ما دفع، إذا كان ما دفع مثلا إلا خمسمائة ريال ليس له أن يأخذ إلا خمسمائة ريال فقط، قالوا: لأنه إذا أخذ أكثر مما دفع يكون قد أخذ مالا بغير حق، فيكون هذا من أكل الأموال؛ أموال الناس بالباطل.
والقول الثاني في المسألة أنه يجوز أن يأخذ ما بذل له، ولو كان أكثر مما دفع؛ لأنه إذا جاز الدفع جاز الأخذ، ولأن قاعدة الشريعة أن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان، ولأن هذا أقرب إلى تحقيق العدل؛ إذ إن هذا الشخص لو أنه لم يحصل له حادث لأخذت منه أموال كثيرة، فكيف نقول: نجبره على.. أو نقول له: إذا كان الحق عليك فابذله وادفعه ولو بذلت أموالا كثيرة، أما إذا كان الحق لك لا تأخذ إلا بقدر ما دفعت.
هذا فيه شيء من عدم العدل، وهذا القول هو الأقرب أنه إذا جاز الدفع جاز الأخذ، والخراج بالضمان، والغنم بالغرم، وهذا هو أقرب إلى العدل من القول الأول؛ إذ كيف نقول لهذا الشخص: ادفع لشركات التأمين ولو بأكثر مما تأخذ، أما إذا كان الحق لك فلا تأخذ إلا بقدر ما دفعت، هذا فيه شيء من عدم الإنصاف وعدم العدل، وفيه مراعاة لجانب دون جانب، لماذا تراعي شركات التأمين ولا تراعي هذا الفرد المسكين؟ تقول لهذا الفرد: لا تأخذ إلا بقدر ما دفعت، طيب وإذا لم يحصل له حادث أخذ منه المال بغير حق، فكما أنه يؤخذ من المال فأيضا إذا حصل له حادث ينبغي أن يأخذ المال أيضا، هذا هو الأقرب للإنصاف وإلى تحقيق العدل. والله - تعالى -أعلم.
هذه نبذة مختصرة عن هذا الموضوع، وإلا الكلام فيه طويل جدا، بل فيه رسائل علمية، رسائل دكتوراة، ولكن هذه نبذة مختصرة.
 
 

المراجع

موسوعة المختار الأسلامي

التصانيف

عقيدة إسلامية  عقيدة  معاملات إسلامية