تعد الفترة بين عامي 1876–1914 أهم فترات (موجات) العولمة في التاريخ المنظور؛ فقد هاجر في أثناء موجة التحولات الاقتصادية والاجتماعية، المصاحبة لتطور وسائل النقل والمواصلات والآلة البخارية والبريد والاتصالات، أكثر من 10% من سكان العالم، في حين أن عدد المهاجرين في الموجة الحالية للعولمة، والقائمة على تقنية الاتصالات والمعلوماتية، لم يزد على 2% من سكان العالم.
وفي الوقت الذي هيمنت فيه الليبرالية الاقتصادية والشركات العملاقة على موجة العولمة الأولى، فقد رافقها أيضا صعود القوميات المتطرفة، مثل النازية والقوميات بعامة، والشيوعية التي انتصرت في روسيا العام 1917، كما برامج دولة الرفاه والنقابات والتطور الديمقراطي.
وكانت الموجة الثانية للعولمة، والتي بدأت في الثمانينات، مصحوبة بصعود التيارات الدينية واليمينية في جميع أنحاء العالم. وبالقدر الذي صعدت فيه الليبرالية الاقتصادية، وتغير دور الدولة مفسحا المجال للقطاع الخاص والشركات، وانهارت الاشتراكية والدول القائمة عليها في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية، صعدت أيضا حركات مناهضة العولمة، وهي بالمناسبة أقوى في أوروبا وأميركا مما هي في سواهما من الأقاليم. وتنامت الهويات الإثنية والقومية والحركات اليمينية والدينية.
فالأمم والمجتمعات والأفكار تتحرك على نحو تلقائي غامض لموازنة الأفكار والموجات وحماية نفسها ومصالحها وحقوقها، وهو حراك لا يعني بالطبع ردة فعل مباشرة ومعاكسة، فهذا لا يفسر تماما الأحداث والأفكار، ولا يعني أيضا الخطأ والصواب، ففي الحالتين المتقابلتين ثمة حق وباطل، وتقدم وتخلف، وصواب وخطأ، وظلم وعدل. ومحاولة الفهم والتفسير يجب ألا تدعي الصواب والدقة، ولكنها تزعم أنها تقترب من الصواب، فالنسبية حقيقة عميقة في الكون والحياة والعلم، وهي أيضا مصدر الحراك والتطور.
ولذلك، فإن موقف الدفاع المطلق عن أي موقف وحالة هو ابتعاد كبير عن الصواب والمنطق. وكما أن الاكتشافات العلمية تقع عادة في التخوم والحدود المتداخلة بين المعارف والعلوم، فإن الصواب السياسي والاجتماعي أيضا يقع في تفاعلات المواقف والأفكار وتداخلاتها. وعلى سبيل المثال، فإن الجماعات والفئات الاكثر استخداما لتقنية المعلوماتية والاتصالات الجديدة هم الأكثر غلوا في الدعوة إلى التخلف والتشدد ومحاربة الحضارة العالمية القائمة بكل الوسائل.
ومازالت أحداث السابع من تموز في لندن موضعا للجدل والتظاهر بالحيرة! فقد أخضع تفسير ظاهرة الإرهاب قسرا إلى هوس ديني أيديولوجي، وفهم طفولي يشبه رسوم الكرتون عن الصراع بين الخير والشر، معزول عن الخريطة المعقدة لحراك المجتمعات والدول والأفراد، وتم عمدا وعن وعي مسبق، تجاهل الشعور بالهويات الفرعية في الغرب، برغم أنه يبذل جهودا خارقة في الدفاع عن التعددية والأقليات الإثنية في العالم، لكنه لا يريد أن يعترف بوجودها لديه. وكان صعود اليمين المتطرف في الغرب سببا لتخلي الحركات السياسية التقليدية واليسارية عن كثير من المبادئ والأفكار الديمقراطية، لمجاراة الناخب المؤيد لليمين، وخوفا من الخروج نهائيا من اللعبة السياسية.
التفسير الأيديولوجي والفكري لما جرى ويجري من عمليات مسلحة "غريبة الأطوار" لا يكفي للإجابة عن كل ما يجري، ولا يغطي سؤال الزمان والمكان في هذه العمليات. فالنصوص الإسلامية موجودة منذ ألف وأربعمائة سنة، و"الكفار" موجودون في كل مكان وزمان، ولابد من البحث عن شبكة تفسيرية تنظر للأحداث وتفاعلاتها معا: العولمة ومن تجلياتها الصعود الديني في جميع أنحاء العالم، واليمين المتطرف الصاعد أيضا في كل الأديان والبلاد، وظروف اندماج وتوطن المسلمين في بريطانيا وأوروبا، وإن كان ثمة رغبة حقيقية في مكافحة الإرهاب أو تشجيعه واستفزازه، والشعور بالعدل والرضا والظلم والقهر والاستغلال الذي لا يمكن إلغاؤه أو تجاهله، والاستبداد والحرية، والاختيار والحتمية اللتين يوضع فيهما الأفراد والجماعات، والفساد والإفساد الاقتصادي والسياسي، وحقائق وتداعيات مرحلة المعلوماتية والاتصالات. وسيكون مضيعة للوقت، وللعقل أيضا، البحث عن تفسير ما يجري في قوله تعالى: "قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة".

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  ابراهيم غرايبة   جريدة الغد