هل لدينا بالفعل على ساحة العمل السياسي رؤية سياسية "محافظة" قائمة على الثقافة السائدة، وتسعى في برامجها وأدائها السياسي والعام إلى أن تكون التشريعات والسياسات والمواقف تعكس توجهات المجتمع وأفكاره، ويقابلها رؤية سياسية "ليبرالية" تتوجه إلى المجتمع والدولة انطلاقا من نموذج ثقافي وسياسي تسعى إلى إنجاحه وتطبيقه بغض النظر عن الموقف الاجتماعي والأيدولوجي الغالب؟ أو هل ما سمي تنافس المحافظين والليبراليين أو الرجعيين والإصلاحيين هو تدافع بين نموذجي "الثقافة التي تصنع السياسة أم السياسة التي تصنع الثقافة؟"
وهل تمثل بالفعل المجموعة إياها من الوزراء والشخصيات برنامجا ليبراليا في السياسة والحكم والثقافة؟ لماذا تختلف برامجها وسياساتها على سبيل المثال مع البرنامج الليبرالي الأميركي الذي يمثله الحزب الديمقراطي، والذي نجح في عام 1992 وأعيد التجديد له عام 1996 على أساس "الديمقراطية الاجتماعية" والتي تتوجه إلى الطبقة الوسطى وإصلاح الضرائب والعدالة الاجتماعية، ولماذا تكون أقرب إلى سياسة المحافظين الجدد والقائمة على التعبير عن مصالح الشركات والاستثمارات والطبقات الغنية والمساواة الضريبية محمولة على قضايا دينية وأخلاقية؟
يلاحظ أن الديمقراطية والتيار الديمقراطي هما الضحية الأولى لهذا التنافس، وأنه يتجه نحو قضايا بعيدة عن جوهر التنافس المفترض، وأنه يأخذ أبعادا مختلفة يفترض ألا يكون لها علاقة ببرامج السياسة والحكم التي تتنافس عليها القوى والأحزاب والأفكار، ولكنه أقرب إلى الحشد على أساس الحمية وتوزيع المكاسب والغنائم، ويبتعد عن الأزمات والأسئلة الأساسية التي تحكم العمل السياسي والإدارة العامة للدولة والمجتمع.
فالأزمة الحقيقية أنه لم يقدم للمواطنين برامج ينتخبون على أساسها ممثليهم في البرلمان والحكم المحلي، وأن الحكومات تتشكل وتستقيل بعيدا عن تنافس البرامج والأفكار والأحزاب، وأن المجتمعات والمواطنين "غايبين فيلة" ولا علاقة لهم في الاختيار والترجيح وحتى فهم حقيقة الصراع والتنافس، ولا يبدو لهم الأمر إلا في سياق بدائي ومتخلف في التجمع والمشاركة.
ما هي القواعد التي تتظم العملية السياسية والتنافس والحجب والثقة؟ ليس لدى المواطن المفترض أنه صاحب المرجعية والولاية قدرة على الإجابة، وما يصفه عريب الرنتاوي على سبيل النقد والاعتراض بمنهج الوحدات والفيصلي في التنافس والتعاون يبدو في الحقيقة منهجا متقدما جدا على العملية السياسية القائمة، فمنهج الوحدات والفيصلي يقوم على الأقل على قواعد وقوانين وتقاليد ومرجعيات متفق عليها وملتزم بها مهما كانت هذه القواعد والتقاليد مرفوضة أو خاطئة أو غير عادلة، وحتى الطائفية اللبنانية التي تذكر على سبيل السخرية "اللبننة" تحولت إلى ديمقراطية طائفية وتفاهمات سلمية وتسويات معقولة ومستقرة في تنظيم الحياة السياسية وتداول السلطة والتنافس عليها، ولكن الحياة السياسية القائمة لدينا في الأردن تبدو في حالة متخلفة بكثير عما سبق، فهي أقرب إلى المجموعات والشلل القائمة على الأصدقاء والأصهار والشركاء والندماء والأتباع والمصالح الصغيرة الضيقة التي لا علاقة لها بليبرالية أو علمانية أو إسلامية أو إصلاحية أو عشائرية أو إقليمية.
وسيكون الجدال والحوار حول الاعتدال والتطرف، أو الإصلاح والرجعية، أو دور الدولة والقطاع الخاص، أو التشريعات المنظمة للحياة السياسية والعامة، أو التوطين والمواطنة، أو المركزية واللامركزية، أو الحوسبة والحكومة الإلكترونية، أو تشجيع الاستثمار، والتنمية السياسية أو الإدارية، أو الأجندة الوطنية تضليلا لنا ومضيعة للوقت أو في أحسن الأحوال تمرينا ذهنيا مترفا، لا يختلف عن جدليات الأصالة والمعاصرة، أو الشعر الحر والعمودي، أو الشورى والديمقراطية، أو الفرق بين شعر أبو تمام والبحتري.
فحقيقة الصراع والتنافس يدور على مسائل وقضايا أخرى بعيدة تماما عن هذه المساحة من العمل والتفكير، وليس لنا خيار في التأييد والمعارضة، ولا مجال أمامنا للانحياز والحياد، ولا فرصة للعمل والمشاركة سوى أن نبحث عن السوسنة السوداء، زهرة الأردن الوطنية.
المراجع
alghad.com
التصانيف
صحافة ابراهيم غرايبة جريدة الغد العلوم الاجتماعية