يبدو أن الحكومة متجهة إلى تأجيل انعقاد مجلس النواب إلى أقصى حد ممكن، وهذا يؤشر على عمق الأزمة بين السلطتين، التشريعية والتنفيذية، ويرجح احتمال أن الحكومة "تلعب في الوقت الضائع"، وأنها سوف تستقيل قبل انعقاد دورة مجلس النواب القادمة، كما حدث لحكومة طاهر المصري عام 1991 عندما ووجهت ببيان من أغلب النواب يعلنون حجب ثقتهم بالحكومة، وهو بيان وإن لم يكن يسقط الحكومة دستوريا، لكنها عمليا وأدبيا تعتبر فاقدة للثقة والغطاء البرلماني. وإذا لم تنجح الحكومة في كسر الطوق البرلماني حولها، والذي يبدو أنه محكم وجاد، وليس مجرد مناورة، إضافة إلى ما يقال أيضا إن عدد النواب الذين سيحجبون الثقة أكبر من عدد الموقعين على بيان الحجب، فإن الحكومة لن يكون أمامها خيار سوى الاستقالة.
الاجتماع الذي جرى بين رئيس الحكومة ومجموعة حجب الثقة أظهر أن الأزمة أكبر بكثير من مناورة نيابية، وأكبر بكثير من البعد الجغرافي للتركيبة الحكومية، وسيكون التركيز السياسي والإعلامي على هاتين المسألتين في الأزمة ابتعادا عن النقاط الأساسية في أزمة الإصلاح السياسي التي كثر الحديث عنها، وربما يدفع النواب أيضا إلى مزيد من التطرف. وفي جميع الأحوال، فإن الأصل في النظرة والتحليل المتعلقين بالحراك النيابي قائم على أنه تعبير عن رغبات واتجاهات الناخبين، أي المواطنين، أصحاب الولاية على الموارد والسلطة، والمرجعية الأساسية في السياسات والاتجاهات العامة للدولة والمجتمع.
وفي هذه الحالة ستزيد أهمية مجلس النواب، ويكون حضوره في تشكيل الحكومة قويا ومسبقا، وربما تكون الفرصة متاحة لتشكيل حكومة برلمانية،وسيكون عبد الهادي المجالي رئيس مجلس النواب الشخصية الأكثر قدرة على تشكيل حكومة تحظى بقبول الأغلبية، وتحقيق قدر من الرضا العام، وهو بالطبع ليس حلا إنقاذيا، ولكن إذا أثبت النواب بقيادة المجالي قدرتهم على مواجهة الحكومة، وإعادتها إلى العمل ضمن دائرة الغطاء البرلماني، وإنهاء حالة تهميش السلطة التشريعية وتجاهلها فإن المجالي بدعم من النواب سيكون الشخص الأكثر تأهيلا لتشكيل الحكومة بشخصه هو أو بمبادرته وتنسيقه مع النواب، على نحو يجعل له حضورا ودورا قويا ومهما في تشكيل الحكومة.
وإذا اكتمل هذا السيناريو واستقالت الحكومة بالفعل في شهر أيلول القادم، كحد أقصى للمهلة التي يمكن أن تبقى فيها بعيدا عن طلب ثقة النواب، فإن الإصلاح السياسي سيعود ليفرض نفسه مرة أخرى، لكنه لن يكون هذه المرة على الأغلب عن تشريعات ومسائل مما يصنف في خانة جمع الطوابع وحماية الطيور والزهور البرية، وإنما ستكون أجندته ومطالبه يقترحها ويضعها النواب والمواطنون.
فالمواطنون يتذكرون حياة سياسية ثرية ومتقدمة بين عامي 1989 – 1993، ولم تكن قوانين الأحزاب والمطبوعات قد دخلت مرحلة التطبيق، بل إن قانون الدفاع بقي حوالي سنتين قبل إلغائه عام 1991، وبقي كذلك قانون مكافحة الشيوعية حتى ذلك التاريخ، في الوقت الذي كان ثمة نواب شيوعيون تحت قبة البرلمان، فالحياة السياسية والإصلاح يثريهما إجماع سياسي جاد وحقيقي، ولا يتوقع أن تعود الحياة للأحزاب القائمة في الساحة حتى لو خصصت الحكومة معونات مالية وغذائية وكوتات جامعية لمنتسبي الأحزاب وقادتها.
والإصلاح السياسي الذي يتجادل حوله المواطنون وشعوب العالم، بما في ذلك الخلاف حول الدستور الأوروبي الموحد، يتعلق بإدارة وتوفير الاحتياجات الأساسية؛ الحريات والحكم المحلي والضمان الاجتماعي والتأمين الصحي والتعليم والإسكان والثقافة الوطنية والمجتمعية والانتماء والمشاركة والبيئة والحقوق العامة، وتطويرها باتجاه الرفاه، ومكافحة الفساد وهدر الموارد. وبغير ذلك فإن الإصلاح حتى لو نجح وفق أهدافه ومطالبه المعلنة والمقترحة لن يكون أكثر من تحقيق ديمقراطية أنيقة معزولة عن هموم المجتمعات، التي بات من المؤكد أنها تتبع إحساسها العام والمستقبلي، ولم تعد تنتظر النخب والحكومات والأحزاب.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة ابراهيم غرايبة جريدة الغد