هل كان الأردن دولة قبلية، أو تستند في تنظيمها وشرعيتها على القبيلة؟ برغم أن هذا انطباع سائد فإن مراجعة عامة لنشأة وسياسة وفلسفة الدولة الأردنية تظهر ببداهة ووضوح أنها لم تكن كذلك أبدا، وأن "القبائلية" في الأردن هي الأقل تأثيرا وحضورا في الحياة السياسية والاجتماعية من جميع الدول العربية عدا مصر ولبنان، حتى هاتين الدولتين اللتين تتمتعان بطبقة وسطى مدينية ممتدة وعريقة فإنهما يواجهان حالة من الإقطاع العائلي الأشد رجعية من القبائل (لبنان) ومجتمعات قبلية محافظة وغير مندمجة في السياق الحديث العام للدولة والمجتمع كما في الصعيد والأطراف في مصر. 
     ولكن لسبب ما لم تدرس السياسة العامة والجغرافيا التاريخية للدولة الأردنية دراسة كافية، أو أن الدراسات التي أنجزت لم تحظ بالعناية والاهتمام والتعميم الثقافي، ويمثل كتاب جهاد المحيسن "القبيلة والدولة في شرق الأردن" والذي نشره البنك الأهلي مؤخرا إضافة مهمة لفهم موقع القبيلة في تاريخ ونشأة الدولة الأردنية، وهي دراسة في غاية الأهمية، ولا بد من التنويه بمبادرة البنك الأهلي لنشر مثل هذه الكتب والدراسات.
      يعرض جهاد المحيسن موضوع القبيلة في التاريخ الاجتماعي الأردني في فترة تأسيس الدولة الحديثة بين عامي 1921 و1926، وكيف نظرت القبائل إلى مشروع تأسيس السلطة المركزية في عمان، وكيف استقبلت المشروع، وكيف أثر الكيان السياسي الناشئ في نمط حياتها وتركيبها الاقتصادي والاجتماعي ودورها السياسي، وكيف استطاع إدماجها في منظومته السياسية والقانونية، ويرصد تقهقر السلطة التقليدية للقبائل أمام السلطة المركزية التي استندت إلى نظم مدنية حديثة وجيش منظم ونظام ضرائبي جديد، كما سيطرت على وسائل الإنتاج ونظمتها وفق معايير جديدة، ووظفت جماهير الناس في مؤسساتها العسكرية والمدنية.
       فبعد انهيار الدولة العثمانية ثم انهيار مملكة سورية بادر الأردنيون بتأسيس ثلاث حكومات محلية لكل إقليم من أقاليم الأردن الجغرافية التاريخية الثلاثة (عجلون والبلقاء والكرك)، وجرت محاولة من حكومة عجلون بقيادة علي خلقي الشرايري الذي كان أحد كبار قادة الجيش التركي العثماني لتوحيد الحكومات الثلاث، ثم أنشئت إمارة شرقي الأردن عام 1921 بقيادة الأمير عبد الله بن الحسين بن علي التي دمجت البلاد في إمارة واحدة، وأنهت الحكومات المحلية.
        إن الحالة الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة تظهر مجتمعا حضريا تقوده نخبة سياسية قيادية وواعية وشاركت في الحياة السياسية بمدخلات الدولة الحديثة كالمعارضة السياسية وإنشاء الصحف والأحزاب السياسية، وأجريت انتخابات تشريعية عام 1928 ظلت متواصلة بلا انقطاع.
         في السنوات الثلاث الأولى من عمر الدولة نشبت أربع انتفاضات مسلحة، وبعضها شارك فيها مثقفون أردنيون، ولكن الظاهرة توقفت تماما منذ عام 1923 لتحل مكانها حياة سياسية ثرية ومعقدة قائمة على المشاركة والمعارضة والأحزاب السياسية والمثقفين والشعراء، وتظهر محاضر المجلس التشريعي المنتخب مناقشات وحوارات وطنية جريئة ومحاسبة قوية للحكومة وتعامل من طرف الحكومة فيه كثير من الإيجابية والمناورة السياسية.
         كان البدو يمثلون جزءا رئيسا في بنية الجيش وتركيبته، ولكنه (الجيش) ساهم بفعالية وتميز في دمج البدو في الدولة والمجتمع ونقلهم إلى مرحلة متقدمة من التعليم والانضباط والاستقرار، ولم يكن جيشا بدويا في ثقافته وسلوكه، واجتذب بسرعة عددا كبيرا من الشباب المتعلمين والذين واصلوا تأهيلهم العسكري الأكاديمي.
         ومما يلفت في تاريخ الحياة السياسية أن قانون الانتخاب ظل موضع معارضة سياسية منذ العشرينيات، وجرت محاولة لتنظيم مقاطعة للانتخابات كان ينسقها حزب الشعب بقيادة حسين الطراونة من أجل تعديل القانون. وباشر المجلس التشريعي الأول أعماله يوم 2/4/1929م إلا أنه حل لعدم مصادقته على موازنة قوة البادية، أما المجلس التشريعي الثاني فقد طالب بتعديل المعاهدة البريطانية وإشراك أبناء البلاد الأصليين في الإدارة، ومناقشة الوجود الصهيوني شرق الأردن, في حين شكل المجلس الثالث بداية لحلقة طويلة من المجالس المتوافقة مع الحكومة، ومن أهم القضايا التي صادق عليها: قانون الدفاع الذي وضعت بنوده من قبل سلطات الانتداب البريطاني، مما أثار حفيظة المعارضة على الحكومة والمجلس.
      وعارضت الحركة الوطنية في شرق الأردن المشاريع الصهيونية، ومن ذلك معارضة أهالي الكرك وعجلون مشروع روتنبرغ، وقامت إثر ذلك مظاهرات في إربد، كما نظمت أخرى في كل أنحاء شرق الأردن وخصوصا السلط إثر توجه أنظار الحركة الصهيونية لاستئجار غور كبد، مما دعا الأمير عبد الله إلى نفي ذلك مرتين وتأكيد رفض الوجود الصهيوني شرق الأردن.
       ولم يكن الموقف الشعبي بعيدا عن التطورات التي كانت تحصل في فلسطين، فعبر الأهالي عن ذلك بالمقاومة المسلحة مثل إغارة أبناء الكفارات والوسطية في قضاء عجلون على المستعمرات في سمخ وبيسان، وعلى خلفية أحداث البراق في القدس وهجوم اليهود على الحرم، قامت التظاهرات في مختلف أنحاء الأردن وكان أكبرها في عمان، وفتح باب التطوع مع الثوار الفلسطينيين، وشكل الأهالي في الشرق الرديف الأساسي للثورة الفلسطينية في إقامة التظاهرات والإضرابات، وكان شرق الأردن معبرا أساسيا للثوار والأسلحة باتجاه فلسطين.
      كما كان ملجأ أساسيا للثوار السوريين الذين أخذوا منه مركزا لعملياتهم العسكرية ضد الفرنسيين، وبعد تأسيس الإمارة كانت أبرز الأعمال التي قام بها الثوار السوريون بدعم من الوطنيين الأردنيين محاولة اغتيال الجنرال غورو، وكذا التظاهرة الكبيرة في سبتمبر/أيلول 1921 إثر اعتقال إبراهيم هنانو.
     وتعود جذور الحياة الحزبية شرقي الأردن إلى فترة تأسيس الإمارة، وكان أول حزب سياسي في الأردن هو حزب الاستقلال, ثم شكلت جمعية الشرق العربي في أربد 1923 للسعي وراء الوحدة العربية والعمل من أجل استقلال منطقة الشرق العربي استقلالا تاما، وحزب الشعب الأردني لتأييد الحكم الدستوري والحفاظ على استقلال البلاد ونشر مبادئ المساواة والإخاء.
       وقد كانت هناك أحزاب أخرى مثل الحزب الحر المعتدل، وعصبة الشباب الأردني المثقف، وحزب العمال الأردني، وجمعية مساعدة العمال الأردنية، وحزب التضامن الأردني، والحزب الوطني الأردني، واللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني، والإخاء الأردني.
        وربما كانت الأحزاب السياسية التي تشكلت شرقي الأردن في الفترة من 1927-1940 تشكل انعكاسا للبنية الاجتماعية السائدة ذات الطابع العشائري ولم تكن تعمر طويلا, وكان لتعددها وقصرها وعدم استنادها إلى حركة اجتماعية محددة المطالب وغياب البرامج اقتصادية وسياسية واضحة المعالم عنها، أنها بقيت تجمعات شخصية محددة وأصبحت عرضة للانهيار السريع، وظل الضامن الوحيد لاستمرارها يتوقف على شكل العلاقة بين أفرادها.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  ابراهيم غرايبة   جريدة الغد