يشكل الواقع السياسي آفاقا ومحددات مهمة وفاعلة للمشهد العام للتخلف والتقدم، وبرغم أنه يمكن نظريا، وقد حدث في التاريخ والجغرافيا، أن تتشكل نهضة اقتصادية وتنموية وعلمية في واقع سياسي استبدادي ومتخلف، أو أن يكون ثمة تخلف وفقر وحرمان في واقع سياسي عادل أو ديمقراطية ومشاركة سياسية واسعة وحريات كبيرة، ولكن الواقع السياسي المؤطر للتقدم والتخلف لا ينحصر في الاستبداد والظلم السياسي أو العدل والحريات، فالبيئة السياسية أكبر من ذلك وأشمل، وربما يكون العمل السياسي البعيد عن التفكير المباشر هو الأكثر أهمية وتأثيرا في النهضة وليس أسلوب الحكم كما يتبادر إلى الذهن تقليديا.
فالتعليم والتطور والصناعات والتجارة والتقنية تحتاج اليوم إلى بيئة واسعة من العمل الإقليمي المشترك، والتعاون الدولي والإقليمي، والتسهيلات والتشريعات والقرارات السياسية، والصراع السياسي أيضا. وليس مبالغة القول إن جوهر الصراع العالمي والإقليمي وحقيقته هو المصالح الاقتصادية والتقنية.
لم يتوقف السؤال عن سبب تخلف العرب والمسلمين منذ استفاقوا على تفوق الغرب ونهضته، ومازالت صدمة الاحتلال الفرنسي لمصر عام 1798 ماثلة في ضمير ووجدان العرب، وتلح عليهم بالسؤال الموجع: لماذا تفوقوا علينا؟ ولماذا كنا متفوقين عليهم؟ ولكن السؤال اليوم يزداد إلحاحا وأهمية في ظل التحولات الكبرى الجارية في العالم، والتي تغير كل شيء تقريبا، والتي تفرض فرصا وتحديات جديدة تمكن الأمة من السيطرة على الفجوة الحضارية مع العالم، أو تزيدها وتدفع بها من جديد إلى مزيد من التخلف والانحسار.
يمكن بالطبع ملاحظة الكثير من مظاهر العجز والتخلف لدى العرب والمسلمين، وهي على قدر من الكثرة والخطورة يجعل التفكير في النهضة والإصلاح، ورسم اتجاهات العمل، وتحديد الأولويات والأهداف أمراً في غاية الصعوبة والتعقيد، ويصدق فيها القول "الفتق أكبر من الرتق".
فالعرب والمسلمون لم يعودوا أمة واحدة، ولكنهم دول كثيرة تتنازع أحياناً كثيرة، وهم على درجة من التفرق والاختلاف وتضارب المصالح تجعل مؤسستي المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية في حالة تدعو إلى الرثاء والشفقة.
وبرغم مرور عقود طويلة على استقلال الدول العربية والإسلامية، ورغم مواردها وإمكاناتها الطبيعية والبشرية فإنها ما تزال في موقع متدن في سلم التنمية البشرية. ومن أكثر مؤشرات التنمية والإصلاح رعباً هي المستويات المتدنية للتعليم، والتبعية في مجالات أساسية واستراتيجية كالغذاء، والدواء، والتقنية، والأمن والدفاع، وأنماط الحياة والاستهلاك والتنمية.
وفي المجال السياسي، يمكن ملاحظة غياب المشروعات الإقليمية كالطرق وسكك الحديد والصناعات والأسواق ومراكز الدراسات والبحوث المشتركة، والتي تجعل من الأقاليم الإسلامية المتعددة، إن لم يكن العالم الإسلامي كله، إقليميا سياسيا واقتصاديا وتنمويا متكاملا يقدر على المنافسة والمواجهة في ظروف لم تعد الدول القطرية منفردة قادرة على العمل والتنمية وبناء الأسواق والصناعات والسلع والمنتجات. وفي الوقت الذي استطاعت فيه الهند والصين بناء قاعدة اقتصادية وتنموية وإنجاز نمو اقتصادي مطرد، فإن الأقاليم العربية والإسلامية مازالت تعاني من العجز وضعف التنسيق، وتعمل كل دولة منفردة، وتواجه الديون والعجز التجاري والتصخم وضعف مستوى الخدمات الأساسية.
ويبقى السؤال ماثلا وملحا: هل يعود تخلف العرب والمسلمين إلى أسباب سياسية، من عجز الحكم وضعف العمل الإقليمي بين الدول العربية والإسلامية أم هو اقتصادي وتنموي وتقني، يعود إلى العجز عن توفير المنتجات والصناعات والتقنيات والأسواق، وتحقيق الرفاه والاحتياجات الأساسية للمواطنين أم هو تعليمي وثقافي وفكري؟ وهل الإصلاح يكون في الحرية والديمقراطية أم هو مجموع ذلك كله أم هو تفاعل وليس مجموعا بين الظروف والمعطيات السياسية والفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي تنتج متوالية معقدة يصعب حسابها وتقديرها من النتائج والخسائر؟
السؤال نصف الإجابة، لكنه نصف لا قيمة له أيضا بلا إجابة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  ابراهيم غرايبة   جريدة الغد