عندما اختير جورج شولتز وزيراً للخارجية الأمريكية ثار حديث حول عمله السابق في شركة أمريكية دولية للنفط، وتخوفت اسرائيل من تأثير العلاقات التجارية السابقة التي أدارها شولتز مع دول الخليج على إدارته للسياسة الخارجية للولايات المتحدة.
 
       لا يمثل شولتز حالة نادرة في السياسة الأمريكية فقد ذكرت دراسة أمريكية أن 60% من الوظائف العليا في وزارات الخارجية، والدفاع، والخزانة، والتجارة، والبيت الأبيض في الولايات المتحدة قد شغلتها شخصيات لها خلفيات قوية في مجتمع الأعمال وبخاصة شركات التمويل والصناعة والقانون، وذكرت الدراسة أن نسبة رجال الأعمال كمصدر مباشر لاختيار المسؤولين تزيد باستمرار.
وهناك مؤسسات تتركز وظيفتها في العمل كونها قناة اتصال بين الحكومة ومجتمع الأعمال الكبيرة، ومنها مجلس العلاقات الخارجية، ولجنة التنمية الاقتصادية، ومنظمات الأبحاث غير الحكومية، ولجان حكومية خاصة تعتمد تشكيلها وتمويلها إلى حد كبير على رجال الأعمال.
 
      تعبر الشركات متعددة الجنسية عن مرحلة العولمة أكثر من غيرها فهي تكاد تكون القوة العالمية الرئيسة وتصوغ تقريباً حياة المجتمعات والدول وسلوكها ومواقفها، وهي إن بدأت تتشكل كظاهرة عالمية منذ نصف قرن إلا أنها في المرحلة الأخيرة شهدت تنامياً وزيارة في التأثير أكثر من أية فترة سابقة. فهذه الشركات كما في دراسة للدكتور اسماعيل صبري وزير التخطيط المصري السابق تزيد إيراداتها عن نصف الإيرادات العالمية (14 تريليون دولار) وتملك شرطتها وأنظمتها الأمنية الخاصة وشبكاتها الدولية للبريد والاتصالات وحتى قضاءها ونقودها (بطاقات الائتمان المصرفية).
 
      ويشير تقرير الأمم المتحدة إلى قدرة هذه الشركات على دمج الشخصيات التنفيذية وغيرها من الشخصيات الهامة التي تجندها للعمل سواء في البلاد المضيفة أو بلد الشركة الأم في بنية فوق قومية.
 
وفي دراسة مهمة للدكتور محمد السيد سعيد عن (الشركات عابرة القومية) تمتلك هذه الشركات فرصة كبيرة في تشكيل الرأي العام وتوجيهه ومن ثم التأثير في السياسات الحكومية واختيار النواب.
 
وكان لهذه الشركات الدور الأساس في الإطاحة بحكومة الليندي الرئيس التشيلي السابق المنتخب، فقد نجحت الشركات الأمريكية المتحالفة مع الطبقات الرأسمالية التقليدية في تشيلي في تنظيم حرب اقتصادية شعواء وفرت الظروف المناسبة للإطاحة عسكرياً بالرئيس المنتخب، حيث امتنعت البنوك عن تمويل التجارة الخارجية، وخلفت بالتالي أزمة خانقة في إمدادات الغذاء، ونظمت هذه الشركات إضراباً أدى إلى إغلاق الشركات الأجنبية وشل حركة المواصلات والاتصالات وامتنعت الشركات عن شراء النحاس المؤمم والمواد الأولية الأخرى.
 
       ونجحت هذه الشركات في خلق تحالف عالمي بين الطبقات الرأسمالية في مختلف دول العالم، وهو تحالف وإن لم يصل إلى الأحزاب السياسية أو اللوبيات المتماسكة المنظمة إلا أنه قادر على التأثير في سياسات الدول ومواقفها.
ويناقش السعيد الافتراضات الأساسية لفوائد هذه الشركات وهي توفير تحويلات مالية من الخارج، وتقديم بدائل للواردات وتنمية الصادرات ونقل التقنية إلى البلاد المضيفة فيجد استناداً إلى تقارير وتحليلات لمؤسسات ومراكز أبحاث مثل الأمم المتحدة واليونسكو أنها أدت دوراً معاكساً، فالتحويلات الخارجية لهذه الشركات لا تزيد عن 3% من رأسمالها، والشركات الأمريكية منها تلقت من أمريكا 21% فقط من اجمالي إنفاقها الاستثماري في الدول النامية، وأما الجزء المتبقي فهو من مصادر محلية، وسيطرت المشروعات التابعة لهذه الشركات على أهم مصادر الدخل والتصدير في الدول النامية، وكمثال على ذلك يوظف المصريون ما قيمته 100 مليار دولار في هذه الشركات (نشرت هذه الأرقام قبل أكثر من عشر سنوات ولابد أن الرقم الحالي أكبر من ذلك بكثير).
 
       وتؤكد تقارير الأمم المتحدة أن استثمارات هذه الشركات في الدول النامية أدت إلى زيادة تعسفية في الاستهلاك وزيادة الاستيراد بسبب ارتباط هذه الاستثمارات باستيراد مواد إضافية ضرورية لتسيير المشروعات وغير متاحة في البلاد المضيفة، وخلقت عادات استهلاكية جديدة بسبب قدرتها الإعلانية.
 
      أوضحت دراسة لمركز دراسات التنمية التابع لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن الشركات عابرة القومية تنتمي تكنولوجياً إلى بلادها، وتؤدي هذه الظروف إلى تقييد شيوع التكنولوجيا الأحدث وكان استخدام مواطني الدول المضيفة في مستويات الإدارة العليا محدوداً، كما أن سياسات التدريب، لم تكن تلائم احتياجات هذه الدول، وأجمعت الدراسات على غياب تام للعلاقة بين مشروعات هذه الشركات ومراكز البحث المحلية.
 
وربما كان أخطر مشهد أدت إليه استثمارات هذه الشركات وتحالفها مع حكومات الدول المضيفة هو اختلال أولويات هذه الدول وبرامجها الوطنية والتنموية، فقد ركزت هذه الدول على الاستثمار في الهيكل الأساسي الذي تتم صياغته على نحو يفيد أساساً الاقتصاد الرأسمالي الاحتكاري وأهمل الدور الاستثماري والانتاجي المباشر.
 
ويلاحظ بوضوح في الدول المتحالفة مع الشركات متعددة الجنسية إهمال وظيفة بناء الشرعية لصالح الضبط الذي يتحول بسرعة إلى قمع مباشر شامل، أما الوظائف الخاصة بتجديد المجتمع وتأهيله كالتعليم والصحة فعادة ما تهمل، ويركز على إعادة انتاج النخب الثقافية والسياسية مع إهمال كمي ونوعي للتعليم والصحة على المستوى الجماهيري.
 
وظائف الدولة أيضاً تشهد تدهوراً متواصلاً ميالاً للانفصال بين مستويين للأداء الوظيفي وفقاً لطبيعة الجمهور المتلقي لهذه الوظائف، فهناك مستوى مرتفع للنخب عادة ما يتم في ترابط وثيق مع القطاع الخاص، والثاني مستوى منخفض يعاني من إهمال وضعف الانفاق ولهذا تتميز الدول التي تستقطب استثمارات الشركات متعددة الجنسية بمستوى مرتفع من عدم المساواة، وعدم التكافؤ في مستويات النمو بين الأقاليم والمناطق، وتسعى هذه الدول عادة إلى إضعاف التنظيم النقابي والتسامح مع مستوى مرتفع من البطالة.
 
      وربما يعبر فيلم wild geese  إلى درجة كبيرة عن دور هذه الشركات وسلوكها، فحسب الفيلم تسعى إحدى الشركات الأمريكية التي تقيم استثمارات ضخمة في بلد إفريقي إلى إعادة رئيس هذه الدولة الذي أطاح به انقلاب عسكري إلى سدة الحكم، وتستأجر لهذا الغرض شركة من منظمي (المغاوير المتقاعدين أو المدربين تجارياً لأغراض أمنية وعسكرية) وتتحدد مهمة هذه الشركة في الوصول إلى مكان اعتقال الرئيس المخلوع والانتقال به إلى مطار حيث تنتظر هناك طائرة ترسلها الشركة لنقل الرئيس والمقاتلين المرتزقة.
 
     وفي الوقت نفسه تحاول الشركة الوصول إلى اتفاق مع الحكام الجدد للحفاظ على مصالحها وتستطيع أن تحقق مكاسب جديدة لم يكن يتيحها الرئيس السابق، وتم الوصول إلى هذا الاتفاق في نفس اللحظة التي نجح فيها المقاتلون في نقل الرئيس السابق إلى المطار والاستعداد للانتقال معه بالطائرة ولكن رئيس الشركة الاستثمارية يتصل فوراً بقائد الطائرة ويطلب منه الرجوع فوراً إلى الولايات المتحدة  وترك الرئيس والمقاتلين يواجهون وحدهم عسكر الدول الإفريقية الذين يقتلون معظمهم بالبلطات والفؤوس.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  ابراهيم غرايبة   جريدة الغد