هل ستتوقف الصحافة يوما ما ونصبح نحن الكتاب والصحفيين بلا عمل؟ هل سيصبح العالم "انترنتياً" لامجال فيه إلا لـ "بني انترنت" من الكتاب والمحررين؟ ويصبح علينا التحول إلى العمل الإنترنتي أو ننقرض ليحل محلنا شباب من عفاريت الكمبيوتر والإنترنت يخاطبون الناس ويعلمونهم؟ هل يحتاج الناس ما نكتبه لهم أو يقرأونه بالفعل؟ هذه الجموع المقبلة على الأسواق والمعارض والبوكيمون والشيبس والتي تشتري كل شيء إلا الكتب والمجلات والصحف؟ هل تحول أمثالي إلى ديناصورات لا لزوم لها؟ ما الذي يحتاجه الناس بالفعل لنكتب عنه ويعجبهم ويدفعهم لقراءة مقالاتي وإقناع الناشر بجدوى بقائي كاتبا في صحيفته؟ ما هي الاتجاهات الجديدة للأجيال والمجتمعات والناس والتقنيات التي يجب أن نلاحظها ونواكبها؟ ماذا يفعل أمثالنا ممن يداهمهم التقدم في السن وموجة المعلوماتية والكمبيوتر والتي تغير كل شيء تقريباً؟
أسعدني كثيراً في فيلم الديناصور الذي حضرته مع أطفالي أن الديناصورات يمكن ألا تنقرض، وتستطيع أن تحافظ على بقائها، وكانت هذه الحسنة الوحيدة لمرافقة الأطفال إلى السينما ومشاركتهم حضور فيلمهم المحبب، والواقع أني منذ بضع سنوات وأنا مصاب بمرض الخوف من الانقراض، وألاحظ أني مشروع ديناصور تتجاوزه الحياة، وهي مخاوف تغذيها مشاهد واقعية من اليساريين والقوميين والإسلاميين والحزبيين والمسؤولين والصحفيين والكتاب الذين تحولوا إلى كائنات تثير الشفقة على بعضهم أو الاشمئزاز من البعض الآخر، فأولئك الكتاب والسياسيون والزعماء والمفكرون والصحفيون والأدباء الذين كانوا ملء السمع والبصر أصبحت كتبهم ومجلاتهم لا يقرأها أحد، وتوقفت مجلات وصحف عريقة بعدما واصلت إصدارها عشرات السنين، وبقاياهم ممن لم يجد مكانا أو مأوى يستجدي الصحف ودور النشر ليجد مكانا ما أو مصدر رزق، هل يعقل أن رؤساء تحرير صحف ومجلات كان لها شأن يعاملون كما الهواة والمبتدئين ويزاحمون الكتاب الشباب الذين كانوا يتباهون بأنهم يقرؤون لهم، والبعض الآخر تحول إلى بيوت خبرة ووكالات أشبه بمؤسسات المرتزقة للمشاركة في كل مهرجان من مكافحة الأصولية والإرهاب إلى الليبرالية الجديدة والعولمة الرائعة.
ولكن ليست التحولات السياسية فقط هي مصدر الرعب، وإنما أيضاً أنماط الحياة الجديدة، والعولمة، وثالثة الأثافي عندما يداهمني شعور بأن الإنترنت والفضائيات يمكن أن تقضي على أمثالنا.
وخطر لي أني تحولت إلى كائن غريب لم يعد يقدر على الكتابة، أو أنه لم يعد يملك شيئاً يكتبه، فالكتابة مثل خزان الماء الذي يأتيه الماء من البلدية ويعطي الماء للبيوت فإذا توقفت البلدية سيتوقف الخزان، من يقدم الماء: البلدية أم سلطة المياه والمجاري؟ لماذا تجمع الحكومات بين الماء والمجاري؟ لتسقينا "مجاري" إذا غضبت، أو تسقينا ماء إذا رضيت عنا.
ولاحظت أنني في العمل والمجالس أكون من أكبر الموجودين سنا، وان أجيالي صاروا جدوداً، وكثير منهم مات أو مصاب بالسكري، والجلطة، والقولون، والقرحة، ومن سلم من الصلع فإنه يصبغ ما تبقى من شعره، وليس المفزع أن يناديك الأحفاد: "سيدو" ولكن عندما يكون الواحد زوج "تيتا" أو حين تخاطبك زميلة في العمل بـ "عمو" فتقول في سرك: "عمى يعميك" وأما أجيالي الذين بدأوا يحالون على التقاعد منذ أكثر من عشرين سنة فهم بالمئات، لأن أبناء بلدتي يذهبون إلى الجيش إلا متعوسي الحظ من أمثالي، وعندما توقف الجيش عن استيعاب الناس صار الأولاد يدرسون في الجامعة، ويوجد اليوم في بلدنا الذي يبلغ عدد سكانه سبعة آلاف نسمة حوالي ألف جامعي، عدد العاطلين عن العمل منهم خمسمائة، ولذلك صاروا يدرسون ماجستير ودكتوراه، والبنات أيضاً يتحايلن على البطالة والعنوسة بمواصلة الدراسة.
ولكني عرفت أنني لدي أشياء كثيرة في الخزان يمكن أن أكتبها، ويبدو أن البلدية، أو سلطة المياه، أو المجاري ما زالت تضخ في الخزان، لدي أخبار كثيرة وحكم جديدة تعلمتها يمكن أن أكتب عنها، وهناك أيضاً تجارب وخبرات عظيمة تكونت أو جاءت على الخزان، والحقيقة أن الساحة مليئة بالأحداث والأخبار التي نتعامل معها.
المراكز التجارية والمولات موضوع مهم جدا ويشغل الناس، والإحاطة بمثل هذه القضايا تجعل المرء مواكبا للتطورات، المشهد عظيم، والناس تدفقت تملأ العربات،كل عائلة تدفع عدة عربات من النوع الكبير الذي تحمل الواحدة منه أكثر من دكان أبو دواس رحمه الله الذي ظل مصدر التموين الوحيد لقريتنا ربما لأكثر من قرنين من الزمان، ماذا يفعل الناس بهذه المواد، أعتقد أنني نقلت إلى البيت ما يفتح سوبر ماركت من النوع الكبير، وأولادي يعتقد من يراهم أنهم مصابون بسوء التغذية أو أنهم من ضحايا المجاعة. فلا يعنيهم من كل ما أحضره من لحوم وأسماك ودجاج وخضروات وفواكه سوى الشيبس والشوكولاتا، ولكن بيت القصيد والحكم والتجارب العظيمة التي يمكن أن أكتب عنها، هي في الفرق بين المطهرات والمنظفات، الديتول والسيتول، والفيتول، والذيتول، صحيح أنها كلها تضع سيفاً ولكن هناك فرقا بين السيوف، وكذلك الأمر بالنسبة للتايد والأريال والأومو، والزيوت أيضاً يمكن أن أكتب حولها موسوعة محدثة، فليس المهم معرفة الأنواع وأسعارها وأحجام العبوات، لكن هناك بعدا مهما جدا في الموضوع: السحب والهدايا والعروض (يعني ال أوفر) والتنزيلات.
المطاعم أيضا هي مادة واسعة للكتابة ويمكن أن أصدر صفحة يومية مثل صفحة الثقافة والسياحة أو ملحقا أسبوعيا، وهناك المطاعم البحرية، والمطاعم الصينية، والإيرانية، والهندية، وأيضا مطاعم الفول والحمص، والشاورما، وغيرها كثير جداً زرتها وعرفتها ويمكن أن أكتب عنها الكثير.
الزميلة عبير فؤاد طمأنتني في العيد، لا تخف فهناك دائماً مكان لأمثالنا، ولن يضيق العالم بنا، ولكن مهناً كثيرة انقرضت ولم يعد أحد يعرف أصحابها، ولم يعد العالم يتسع لها، من يصيد اللؤلؤ اليوم؟ وصانع الطرابيش، ومصلح بابور الكاز، ومبيض النحاس، وحاذي الخيل، وفايز، البائع الدوار، والتلفزيون الرسمي.
جمال خاشقجي أيضاً يحاول أن يطمئننا ويطمئن نفسه، فهو يؤكد أن العالم ما زال يحتاج إلينا وأن الصحافة الورقية باقية وأن الإنترنت لا تضرنا ولكنها ستؤثر على التلفزيون، وربنا يسمع منك يا جمال ويجعل بأسهم بينهم شديداً ( التلفزيون والإنترنت) وفخار يكسر بعضه.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة ابراهيم غرايبة جريدة الغد