يقول الموظف لصديقه الجالس بجواره اخفض صوتك ففي هذه المكاتب يسمع الناس بعضهم بعضا، فجاء صوت من بعيد يصرخ باحتجاج: هذا ليس صحيحا، فلا أحد يسمع هنا شيئا، والقصة ليست المثال الوحيد على ضياع الخصوصية في منظومة حياتنا، حتى تحولت من كرة مغلقة إلى سطح مكشوف، كل شيء فيها معروض للمشاهدة والتعليق، والسخرية، والنصيحة، والنقد، والشفقة، والحسد.
والأصل في الأشياء التكور، فالأرض كروية، والكون مثل كرة، والذرات والجزيئات تميل في سعيها للحد الأدنى من الطاقة إلى التكور، وقطرات الماء كروية، وأتوقع أن كرة القدم كروية أيضا، والإنسان في خصوصيته وامتلائه دائما بالأسرار والخصوصيات مثل كرة.
وفي بوليفيا (من المهم جدا ملاحظة أنني أتحدث عن بوليفيا) كتب شخص لأخيه: لا أستطيع أن أكتب لك كل شيء، فموظفو البريد يقرأون الرسائل، وفي اليوم التالي جاءته رسالة من إدارة البريد تقول: ليس صحيحا أيها الأخ أننا نفتح الرسائل، هل قلت إن القصة حدثت في بوليفيا؟
ماذا يحدث للإنسان والأشياء عندما تتحول من التكور إلى التسطح؟ تندلق الأسرار والفضائح والقصص والمعلومات، وتسيح على السطح، ثم تتحول إلى كومة من الخردوات والنفايات، وكأنها صحيفة الأمس، أو تلفزيون بوركينا فاسو، وأنت أيضا تتمزق مثل كرة تحولت إلى خرقة، تناثرت محتوياتها للناس جميعا والعابرين، كل ما لا تحب أن يطلع عليه سواك يصبح معروضًا أمام الناس يتسلون بالنظر إليه، وركله، والسخرية به، ويستمتعون بالنصيحة، والنقد، والتعليق، ويجلدونك بالرأي، والتشجيع، والشفقة، ثم تتحول أنت إلى شيء ممل غير مسل، مثل شيء يجب التخلص منه، انتهت صلاحيته، لم يعد يثير الفضول، ولا يغري المتطفلين، فقيمة الإنسان تقاس بمقدار ما يمكن للناس أن يراقبوا فيه ويعرفوا عنه.
وتتشابه المدن، والشوارع، والمأكولات، والمطاعم، والأذواق، وقصات الشعر، وملابس النساء، وقصائد الغزل، حتى الصحف يمكن أن تتحول إلى صحيفة واحدة، ويكون لدى باعة الصحف أختام بأسماء الصحف وشعاراتها، وإذا طلبت صحيفة ما يخرج من كومة من الصحف المطبوعة بلا عنوان ويضع عليها اسم الصحيفة التي ترغبها، ويمكن أن تفعل ذلك بنفسك، إذا كنت تستخدم الإنترنت.
ماذا يحدث للإنسان عندما يشعر أن كل شئ مكشوف أمام الناس؟ إنه لن يعدل سلوكه كما يتوقع البعض، ولكنه سيفقد حياءه وخجله من الأفعال ويتصرف ويتحدث كما يفكر تماما، لن يعود الحياء دافعا للفضيلة، سيفقد احترامه لنفسه وللآخرين، يعيش حالة توتر دائم، أو لا مبالاة دائمة، وفي الحالتين سيكون كيانا خطيرا على نفسه وعلى الآخرين، هذا ما يحدث دائما للمساجين الذين يخضعون لحالة دائمة من المراقبة الشاملة والتفتيش، والشك، حتى الشرطة الذين يعملون في السجون فإنهم مع الزمن يتحولون إلى سجناء، ويكتسبون صفاتهم، وحتى علاقتهم بذويهم ومن حولهم تكون كما يتعاملون مع المساجين والمتهمين.
ومن النكات التي وصلتني بالإنترنت واحدة تقارن بين السجن والعمل، فهما متشابهان في كل شيء تقريبا، ويفضل السجن على العمل في بعض الأشياء، كأن يفتح لك الباب بدلا من أن تفتحه بنفسك، ولكني وجدت علاقات وأشياء أخرى يتشابه فيها السجن والعمل، وهي ليست مذكورة في القصة (حتى القصص التي تصلك بالبريد الإلكتروني هي مما يلقى في الإنترنت ويمكن أن يلتقطها كل إنسان، صحيح أن الإنترنت مليئة بلا حدود بالمعلومات ولكنها متاحة لكل من يشاء).
ففي العمل، حيث يجلس المحررون في فضاء واحد مشترك (نيوز روم) ونكب على أجهزة الكمبيوتر نتطلع فيها ببلاهة وندير ظهورنا للدنيا (يا للبشاعة) ويجعلني ذلك أتعرض لمراقبة (أو زيارة) من الخلف وأكون مستغرقا في العمل أو التفكير، فأجد صاعقة من كلام أو تعليق أو سؤال يستوضح عما أفعله ،تنقض علي تهزني، تقتلع كياني، ثم تمضي لحظات ثقيلة من الانتظار المضني لا أعرف فيها هل مضى ذلك الزميل الزائر أم انصرف؟ هل أعود إلى عملي؟ ماذا لو كنت أكتب رسالة خاصة؟ أو أعمل شيئا لا أرغب أو يجب ألا يطلع عليه هذا الزائر؟
فالفضاء الواحد يعطي شعورا للناس أنهم شركاء في كل شيء ويحق لهم الاطلاع على كل شيء، فيزحف زميل على كرسيه ذي العجلات ويقول مازحا: إنكما تتحدثان بصوت منخفض، ارفعا صوتيكما حتى أستطيع أن أسمعكما، ويقول شخص يقف من فوق رأسك لم تكن تعلم أنه يراقبك: لماذا تكتب بخط صغير، أكتب بخط كبير حتى لا تؤذي عينيك (وأستطيع أنا أن أقرأ ما تكتب) ويأتيك زميل يستكمل فهم الحوار الذي دار بينك وبين شخص آخر بالهاتف فهو لم يفهم بعض ما دار بينكما من حديث.
وكانت رسائل العشق وإشاراته تتم بالمناديل فلكل شخص تقريبا منديله الخاص الذي يطرز عليه اسمه، ولكن الناس جميعهم يستخدمون مناديل زائلة لا تستخدم إلا مرة واحدة، فلا تصل إلى رئيس التحرير مناديل مطرزة ولا رسائل معطرة فجميع الرسائل تتشابه في البريد الإلكتروني وكذلك بطاقات التهنئة، فيحتاج أن يسألني ليعرف إن كان ثمة معجبات بكتاباته، ولكني لا أعرف إلا معجبين كثيرين يبحثون عن عمل.
ولكن الإعلام فعل بالناس أكثر من ذلك بكثير، لقد ألغى خصوصية الناس حتى إن أسرة بوش تشكو وتستجدي وسائل الإعلام أن تمنحها شيئا من الخصوصية، وما قصة كلينتون مع لوينسكي عنا ببعيد، فعلى سبيل المثال نشر على الإنترنت محضر التحقيق كاملا المكون من أربعة آلاف صفحة ويروي أدق التفاصيل والمعلومات، مما حدث بين العاشقين، حتى إن المرء يشعر بفرح أنه ليس رئيسا للولايات المتحدة، والواقع أن قصة كلينتون لوينسكي تصلح حالة دراسية لطلبة الإعلام والصحافيين.
وفي الوطن العربي أدت المنافسات السياسية والتجارية والشخصية عدا عن فضول الإعلام وإمكاناته المتاحة والتنافس بين وسائل الإعلام إلى التعرض لحياة الناس الخاصة.
ومما يقال في الأردن إن الجرائم تطورت كما ونوعا، والحقيقة أن الإحصاءات والمصادر الأساسية تثبت بوضوح أن أوضاع البلد مستقرة من الناحية الاجتماعية وأن مسار الجرائم ثابت، ولم يتغير شيء على الناس والمجرمين ولكن ما حدث أن الصحف التي تعتمد على أخبار الجريمة زادت أو هي لم تكن موجودة قبل عام 1993، وهذا مما استفاده الناس من حرية الصحافة وربما لم يستفيدوا شيئا آخر، فصار الناس يعرفون عن الجرائم مما كان يحدث ولا يدري عنه أحد فيظنون أن البلد خربت، ومع استخدام الإنترنت لم يعد بث الأخبار مكلفا أبدا فيكون لخبر مثل حمار يعض صاحبه في بلدة بيت إيدس فرصة النشر في الوكالات والصحف ومواقع الإنترنت مع أن الحدث ربما يقع كل يوم مليون مرة في أنحاء العالم، ومما يعترف به جماعة صحافة الإثارة أنهم افتعلوا قصصا وأخبارا من خيالهم ولكن ما فاتهم أن الصحافة في تعولمها جعلت ما كان يمر فقط على بضع مئات من القراء المراهقين ينتشر في كل أنحاء العالم بسهولة ويسر.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة ابراهيم غرايبة جريدة الغد