مسؤولية الرعاية والاعتناء تتطلب من القائم بها حسن الإدراك، والتفاعل والإيجابية في تقديم المثري والنافع لكل ما يحيط به ولكل من حوله، ودائرة هذا النفع دائرة متسعة يدخل فيها الناس جميعاً كافرهم ومؤمنهم، وهؤلاء الذين يحتسب المرء فيهم سواء كان داعية أو عالماً بدعوتهم إلى الإسلام حتى يستجيبوا ويدخلوا في دين الله تعالى ويُنقَذوا من النار، أو يتوبوا إلى الله تعالى بترك المحرمات وتطوير الطاعات والازدياد منها، وفي هذا الصدد وردت قصص الأنبياء في القرآن الكريم، وكذلك عدد من قصص القرآن في أفراد ودعاة آخرين.
ومع كل هذا قد ينطبق على المحتسب في هذا المجال المقولة الشهيرة: لا تكن كالشمعة تضيئ للآخرين وتحرق نفسها، وهي مقولة ظاهرها الرحمة، وباطنها من قبله العذاب؛ ولإيضاح ذلك لا بد أن يتحرك المحتسب وفق تلك النقطة التي ذكرناها، وهي نقطة ( حسن الإدراك )؛ وهذا الإدراك يكمن في جمع أولويات الاحتياجات لمن يدعوهم، وهذا جميل في حد ذاته، ولكن الجميل فقبله ومعه أن يعرف المحتسب الذي يقدم كل هذه الجهود والمناشط الدعوية والخيرية والتطويرية المتنوعة هو نفسه بكيانه الإنساني وشخصيته، وهو مرتكز هذه الدائرة المشار إليها آنفاً.
إن المسؤولية الأولى هي إنقاذ النفس والنجاة بها من الأخطار، وأعظم هذه الأخطار هو النار والحسرة يوم القيامة، وكذلك في الدنيا أخطار كثيرة، منها حب الرئاسة والظهور والشهرة، وكذلك البذل المتواصل دون أي توقف لأخذ جرعات لنفسه التي بين جنبيه، وإن لم يحدث ذلك لحلَّ به التآكل الروحي والحاجة المادية، وضعف الإيمان والصدق مع الله وهو في خضم دعوته وتقديم جهوده.
ليس حديثي هذا عن قول الله تعالى:{ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} كلا، فهذه فيمن يدعو ويدرك في قرارة نفسه أنه يخالف كلامه اعتقاداته، ويعلم أنه مخادع، فهذا أمره خطير، ولكن الحديث عمن ينسى نفسه، وهو على خير وفي نيته الخير.
في مجال الأنبياء كان آدم مثلاً يرجع إلى ربه ويقول:{ ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} فغفر الله له، ونوح عليه الصلاة والسلام رغم دعوته الهائلة إلا أنه كان يلجأ إلى ربه، وأن المصير والهداية عنده سبحانه، وعلى لسان شعيب :{ إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب}، وزكريا كان يناجي ربه، ويدعوه ويُعلّم أهله ذلك، حتى وصفهم الله تعالى بقوله:{ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين}، ونبينا الكريم صلى الله عليه وسلم كان كثير الهروع إلى الصلاة إذا حزبه أمر، وكثير الشكوى والمناجاة والعودة إلى الله تعالى.
فأعظم احتساب يحتسبه المرء الداعية أو المساهم في المجالات الخيرية أن يحتسب في تطوير نفسه في علاقته بالله تعالى، وفي تطوير قدراته ومهاراته، ولذا  كان من الاحتساب على النفس المظاهر التالية:
-  مراجعة العلاقة بالله تعالى في عبادات السر، وأن يزيد منها حتى يكون سره أفضل من علانيته، ويزداد إخلاصه لربه تعالى، ويكون هو ملجأه سبحانه، وفي هذا الصدد يطيب لي أن أنقل كلاماً نفيساً لابن الجوزي رحمه الله؛ حيث يبين جانباً أساسياً في تكوين نفسه:" تفكرت في نفسي فرأيتني مفلساً من كل شيء، إن اعتمدت على الزوجة لم تكن كما أريد، إن حسنت صورتها لم تكمل أخلاقها، وإن كملت أخلاقها كانت مريدة لغرضها لا لي، ولعلها تنتظر رحيلي، وإن اعتمدت على الولد والخادم فكذلك، فإن لم يكن لهما مني فائدة لم يريداني، وأما الصديق فليس ثم، وأخ في الله كعنقاء مغرب، ومعارف يفتقدون أهل الخير، ويعتقدون فيهم قد عدموا، وبقيت وحدي وعدت إلى نفسي، وهي لا تصفو إلي أيضاً، ولا تقيم على حال سليمة، فلم يبق إلا الخالق سبحانه".[1]
-  مراجعة أخلاقه وسلوكه وتصرفاته وقدرة تحمله وكظم غيظه؛ إذ لابد من لوازم العبادة أن تزكي النفس وتهذبها، وترقق القلب، وتخشع الجوارح، لأن هدف الداعية الأعظم هو الناس وقبول دعوته عندهم، فهم ساحة معركته، فإن كان فظاً نفرهم وفشل في أمره ومشروعه.
- إعداد نفسه الإعداد الجيد قبل الخوض والبدء والدخول في الميدان، وهذا الأمر له حدان مهمان:
أ‌- تحديد مقدار معين ومعقول قبل البدء والانطلاقة في العمل المرتقب، ولا بد أن يحدده المجربون والكبار والمستشارون ممن سبق في هذا المضمار، ومن أخطاء القادة في العمل الدعوي والخيري دفع الصغار والنشء والشباب اليافع إلى الميدان على هشاشة أرض وسوء إعداد واضطراب قاعدة.
ب‌- والحد الثاني عدم الخوف من المواجهة بعد التمكن من ذلك المقدار من الإعداد؛ بل يستعين بالله تعالى ويقدم لنفع الناس حتى لا يفوت عليه أجر عظيم وتوفيق وأدعية من الناس بتركه الإقدام في الدعوة والمساهمة في الجهود الخيرية، وفي خاطرة جميلة يقول الشيخ السعدي رحمه الله عن الشجاعة: (ومن فوائدها: أنه بحسب قوة القلب ينزل الله عليه من المعونة والسكينة ما يكون أكبر وسيلة لإدراك المطالب والنجاة من المصاعب والمتاعب.
ومن فوائده: أنه يتمكن صاحبه من إرشاد الخلق ونفعهم على اختلاف طبقاتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وأما الجبان فإنه يفوته خير كثير، وتمنعه الهيبة من بركة علمه وإرشاده ونصحه للعباد)[2]. والإنسان سيظل يعطي ويعطي وسيتعلم وهو يعطي، والمقصود عدم البدء على العلات وكيفما اتفق، فهذا ما يصيب بالخذلان و التراجع والانتكاس، ومن الأهداف الاستراتيجية المهمة للإنسان العامل في أي ميدان أن يفكر في مستقبله الدنيوي وكذلك فيما سيبقى له بعد موته من علم ينتفع به، أو وقْفٍ خلفه، كما قال الشافعي:
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم          وعاش قوم وهم في الناس أموات
وقال جون سي ماكسويل أحد مدربي القيادة في قانون الأرض الصلبة: "الشيء الوحيد الذي يعود من القبر رافضاً أن يدفن مع الإنسان هو شخصيته، فشخصية الإنسان تستمر في الحياة، ولا يمكن دفنها أبداً".[3]
-   تطوير قدراته ومعرفة حاله الراهنة في أي قدرة تهمه وتمس دعوته، ومن ذلك الكلام ومخاطبة الناس؛ فهذه مهارة لا بد من إتقانها وحسن إحكامها، وكذلك الابتكار لأنه في عالم تنافسي لا بد أن يُظْهِر فيه قدرته الابتكارية في شتى المشاريع وهو ما يسمى بالتفكير الإبداعي، وكذلك تنمية حس المتابعة الجيدة وغيرها من قدرات مهمة في الترتيب الإداري لأعماله وجهوده.
-   إكرام النفس بعدم إحراجها وإهانتها بوضعها في مواطن ريبة أو تهمة أو سوء ظن، أو ارتكاب خوارم المروءة المحرجة، أو غشيان مواطن الريب، أو مجالسة من لا يفيدها في عمرها وحياتها، وأن يتبصر بعيوبها، ويقتلعها من أوحالها، ويرقى بها إلى أعلى ما يستطيع من درجات.
هذا الحديث وإن كان منحصراً أو منصباً على المحتسب أو الداعية إلا أن المجال واسع وعظيم في حق المسلم أيضاً في نفسه، فالاحتساب عبادة عظيمة؛ فالمسلم يقرأ القرآن محتسباً الأجر عند الله، ويقوم الليل محتسباً ويكظم غيظه محتسباً، ويتقرب إلى الله بشتى العبادات محتسباً، كما قال صلى الله عليه وسلم: "على كل مسلم صدقة. قالوا: فإن لم يجد قال: فيعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: فإن لم يستطع أو لم يفعل؟ قال: فيعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: فليأمر بالخير أو قال بالمعروف، قال: فإن لم يفعل؟ قال: فليمسك عن الشر فإنه له صدقة".[4]
 
 

المراجع

عودة و دعوة دوت كوم

التصانيف

عقيدة