تتشارك الأديان جميعها بالصوم، وفي بعض الأديان يكون الطعام في أثناء الصيام مقتصرا على الخبز والماء، لمواصلة الألم حتى في فترة الإفطار، وفي ذلك استحضار عملي لقيم إنسانية مشتركة كثيرة تنسيها الحياة والثراء والنفوذ، وفيه أيضا شفاء للنفس من آلامها الجسدية والروحية، ومايزال الصينيون والآسيويون يعالجون أمراضا كثيرة بالامتناع عن الطعام والاكتفاء بالماء.
في تميزها بالتأمل والارتقاء بالنفس يرى أتباع الديانات الآسيوية (البوذية والكونفوشيوسية والهندوسية)، أن الطعام مصدر لكثير من الشرور والأمراض، وأن الجوع والألم يمنحان الإنسان فرصة للارتقاء ونوال الحكمة، وقد التزم غوتاما مؤسس البوذية صياما متواصلا مصحوبا بالصمت بالسكون التام لأجل الوصول إلى مرحلة النيرفانا (الحكمة).
وفي قصص القرآن الكريم عن زكريا ومريم إشارة لأنواع من الصيام عن الكلام، "قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا" "فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا". ونعلم أن الرسول محمدا كان يعتكف في غار حراء في حالة صيام وتأمل، وكان يفعل الشيء نفسه وفي المكان نفسه زيد بن عمرو بن نفيل من نصارى قريش أو الأحناف.
والألم والحزن الناشئان عن الجوع والعطش يدفعان إلى الندم على الخطايا، وطلب الصفح والمغفرة، وإدراك النعم والعجز، وكأن الصائم يعيد إنتاج نفسه أقل خطأ وإثما وأكثر رحمة وشفقة. وفي القرآن الكريم كما في الأديان السماوية كثيرا ما يكون الصيام (غير صيام رمضان) تكفيرا عن خطأ معين "فكفارته إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو صيام ثلاثة أيام" "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم".
والصيام اليهودي يسمى أصلا التكفير والغفران، وفي سفر الأحبار "في اليوم العاشر من الشهر السابع تذللون نفوسكم بالصيام .. لأنه في هذا اليوم يكفر عنكم لتطهيركم". ويصوم اليهود أيضا حزنا على النوازل الكبرى التي أصابتهم، مثل السبي وخراب الهيكل، وعندما حاصرهم المؤابيون والعمونيون استنجدوا الرب بالصيام "صرح كل شعب إسرائيل إلى الله وصاموا، وانسحقوا أمامه، ولبسوا المسوح هم ونساؤهم وأولادهم". واستعد موسى وإيليا للقاء ربهما بالصيام، وفي سفر أشعيا "فالصوم الذي أريده أن تحل قيود الظلم، وتُفكَّ مرابط النير، ويُطلَق المنسحقون أحراراً، ويُنـزَع كلّ نيرٍ عنهم. أن تفرش للجائع خبزك، وتدخل المسكين الطريد بيتك. أن ترى العريان فتكسوه، ولا تتهرّب من مساعدة قريبكَ". ولا شك أن هذا الربط المؤثر بين الصيام والمعاني الجميلة قائم أيضا في الإسلام والمسيحية، وهكذا فإن الصيام يقاس بما يؤدي إليه من سلوك رفيع وارتقاء وتقليل الطعام والاحتفاء والولائم، فنحن نمارس الصيام وكأنه أعياد، وهو ليس كذلك.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  ابراهيم غرايبة   جريدة الغد