تواجه مصر معها السودان حاليا تحديا استراتيجيا يهدد الأمن القومي للدولتين ويتطلب الكثير من الحنكة السياسية والعمل الدبلوماسي السريع وكذلك التضامن العربي - في حال كان ذلك مفيدا - من أجل حماية حقوق مصر والسودان من مياه النيل.
والمشكلة التي ربما بدأت جذورها منذ سنوات انفجرت بشكل سريع مؤخرا من خلال قيام الدول الافريقية السبع التي يمر نهر النيل عبر حدودها أو ينبع فيها بعقد سلسة من الاجتماعات من أجل تقاسم مياه النيل وفق معايير جديدة تختلف عن اتفاقية العام 1929 والتي أعطت لمصر والسودان الحق الأكبر في استغلال مياه النيل ، والتي تصل الى 55 بليون متر مكعب لمصر بالتحديد.
وبسبب رفض مصر والسودان للخطط الجديدة للدول الافريقية فقد استمرت هذه الدول في اجتماعاتها التحضيرية وأتفقت على تغيير نمط استخدام مياه النيل بحيث تزداد حصص دول المنبع وتمنحها الحق في انشاء السدود لانتاج الطاقة الكهربائية وانشاء مشاريع زراعية عملاقة تروى من مياه النيل ، بعد أن استيقظت الدول الافريقية من حالة شلل التنمية التي عاشت فيها عقودا طويلة. وبالتزامن مع هذه الاجتماعات كان لاسرائيل دور كبير في تحريض هذه الدول من خلال زيارات مكوكية قام بها أفيغدور ليبرمان وزير البنى التحتية لكل من اثيوبيا وأوغندا بالتحديد لتقديم عروض استثمارية تتضمن حصول اسرائيل على كميات كبيرة من مياه النيل من المنبع مقابل قيام اسرائيل بتوفير المعرفة التكنولوجية والعلمية والمالية للمشاريع الزراعية في دول المنبع.
أخطر ما تطرحه اسرائيل في هذا السياق هو جعل مياه النيل سلعة تجارية يمكن أن تستثمر بها دول المنبع بشكل ذاتي ودون أدنى اعتبار لحقوق الدول التي تقع على المسار السفلي للنهر وهذا ما يتناقض مع كافة المعاهدات والاتفاقيات الدولية حول المياه العابرة للحدود.
اذا كان حق اثيوبيا والدول الافريقية في التنمية الزراعية محفوظا وينبغي احترامه من خلال اتفاقيات تحترم سيادة الدول وحقوقها وكذلك الحقوق المصرية والسودانية فان مشروع بيع مياه النيل هو تجاوز لا يمكن قبوله للقانون الدولي وهو بالتأكيد نتاج لتحريض اسرائيل التي اعتمدت منذ نشوئها على سرقة الموارد المائية الفلسطينية والعربية.
يدور في مصر حاليا نقاش هام جدا يحاول أن يتبين الأسباب الحقيقية لهذا التحدي الذي تواجهه الدولة. التفسير الأبسط والأسهل لدى معظم المتابعين هو لوم اسرائيل وأنه لولا التدخل الاسرائيلي لبقيت الظروف المساندة لمصر على حالها ، ولكن هذا كما قلنا تبسيط لأن جذور الأزمة موجودة منذ فترة طويلة وهنالك تذمر من قبل الدول الافريقية من عدم حصولها على ما تعتبره "حقوقا عادلة" من مياه النيل التي تنبع وتمر فيها ولكن الدبلوماسية المصرية لم تتمكن من استشعار هذا الخطر أو التصدي له في الوقت المناسب بالرغم من وجود مبادرة "حوض النيل" التي ترعاها الأمم المتحدة ومرفق البيئة العالمي منذ عشر سنوات لمحاولة جمع كافة الدول على مائدة حوار واحدة والتعامل بحكمة مع المستجدات المائية والبيئية والزراعية والتنموية ومعالجتها بما يكفل رضا كافة الدول.
لم يفت الوقت بعد ولا زالت مصر اقرب الى الدول الافريقية من اسرائيل ويمكن لها بمزيج من الحكمة السياسية في القضايا التي تتعلق بحق التنمية لهذه الدول والصلابة الدبلوماسية في القضايا التي تتجاوز المواثيق الدولية مثل تسليع المياه وبيعها أن تحقق معادلة تكفل حماية الأمن الاستراتيجي المائي لمصر والسودان معا ، وتطوير علاقة تنسيق مستدامة مع الدول الافريقية وعزل اسرائيل عن استثمار اية ظروف من الشك التي تحيط بالعلاقات المصرية - الافريقية.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة باتر محمد علي وردم جريدة الدستور