ربما تدخل الانتفاضة الشعبية التونسية تاريخ الثورات السياسية في العالم باعتبارها الأكثر عفوية والأقل تخطيطا منذ البداية ، ولكنها حازت على زخم شعبي هائل تمكن في النهاية من الإطاحة برئيس أمسك بمقاليد السلطة المطلقة لمدة 23 عاما. لا يمكن لحزب أو تيار سياسي أن يدعي الفضل في الانتفاضة التونسية والتي حملت بعدا دراميا ورومانسيا في كونها بدأت باحتجاج شجاع من شاب فقير بسبب منعه من بيع الفواكه على عربة ، فقام بحرق نفسه ولم يكن يدرك أنه بهذا الفعل سوف يطلق عنان انتفاضة شعبية هائلة وطويلة الأمد استمرت لمدة 27 يوما.

وقف العالم مشدوها يتفرج على الحدث التونسي ، ومع تضخم الشحنات العاطفية التي أصابت الشارع العربي بدأ الحديث عن انتشار الحدث التونسي في دول أخرى. وهذا محتمل ولكن من المهم أولا أن يتمكن الشعب التونسي من ضبط إدارة مرحلة ما بعد الثورة ومحاصرة كل مظاهر الفوضى المؤسفة والتي تسببت في يوم أمس فقط في إيقاع ضحايا أكثر من كل عدد ضحايا الانتفاضة الشعبية في شهر كامل. لقد كان مصير كل الثورات العربية في القرن الماضي أن نقلت الدول إلى وضع أسوأ مما كانت عليه سابقا ولكن الشعب التونسي قادر على تغيير هذه المعادلة نحو الأفضل.

من يعرف تونس وزارها يدرك بان الشعب التونسي هو الافضل تعليما وانتاجا وتنظيما في كل العالم العربي وقد تمكن من تحقيق نهضة تنموية اثارت اعجاب او حسد الدول العربية الاخرى خاصة ان تونس الدولة الصغيرة لا تمتلك الموارد الطبيعية الهائلة ولكنها استثمرت بشكل ممتاز في الانسان التونسي بفضل الرئيس الحبيب بورقيبة والذي كان سابقا لعصره بمراحل. ولكن الخطأ الفادح للنظام التونسي كان في عدم منح الحقوق السياسية والحريات العامة لهذا الشعب المثقف والمجتهد فاصبحت الدولة عرجاء تسير على قدم واحدة هي النمو الاقتصادي وشلت القدم الاخرى المتمثلة في الديمقراطية والحريات.

ما زاد الاوضاع سوءا واوصلها الى مرحلة الانفجار وهذا هو الدرس الحقيقي للانظمة العربية كان الانتشار المريع للفساد والبلطجة الاقتصادية التي قادتها عائلة زوجة الرئيس السابق والتي قامت بالفعل بنهب الدولة التونسية وابتزاز المستثمرين وسرقت اراضي الحكومة والناس ونهبت الأموال العامة وانتزعت الأموال الخاصة من المواطنين في سلوك يشبه ما تقوم به عصابات المافيا المنظمة ، وهذه الإضافة النوعية زادت من وطأة القمع وانتهاك الحريات العامة وأوصلت هذا الشعب إلى مستوى الإنفجار.

التخلص من نظام حكم مستبد هو إنجاز لكل شعب ولكن الأهم من ذلك التمكن من بناء المستقبل وهذا يتم من خلال الحفاظ على المكتسبات التي تحققت في السنوات الماضية وهذا يتم عن طريق الضبط الأمني ومنع العنف والفوضى التي تؤدي إلى سقوط ضحايا وخراب الممتلكات وربما السقوط في بحر من الفوضى والفراغ السياسي. وبعد ذلك يبقى الأمل في تحول دستوري هادئ يحقق للشعب التونسي أخيرا الشعار الثلاثي للدولة التونسية "نظام ، حرية وعدالة" فما عاشه الشعب التونسي كان نظاما قاسيا وغابت عناصر الحرية والعدالة والتي يستحقها الشعب التونسي العظيم.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  باتر محمد علي وردم   جريدة الدستور