أ.د الحبر يوسف نور الدائم
أستاذ اللغة العربية بكلية الآداب جامعة الخرطوم
 
حقوق الإنسان من المسائل التي شغلت الفلاسفة والمفكرين ودار حولها جدل عنيف أثار كثيرا من الغبار الكثيف، ولقد حظيت في هذا العصر الحديث بحظ من الاهتمام عظيم حتى بدت كأنها سمة من سماته أو صفة من صفاته، فحسبها بعض من لا علم له بتاريخ الأديان والأفكار والفلسفات أنها من مصنوعاته ومخترعاته التي لم يسبق إليها، وظنها آخرون أنها البنت الشرعية للثورة الفرنسية التي حطمت فيها السجون، وأعلنت فيها مبادئ الحرية والمساواة والإخاء بعد أريقت فيها الدماء، وانتهكت فيها الحرمات، وبذل ما بذل فيها من تضحيات جسام. وحسبها أقوام أنها نشأت مع الأمم المتحدة في مواثيقها وعهودها التي تواضعت عليها بعض الدول وتصالحت، وأعطتها صفة العالمية والشرعية الدولية. وما من دستور من الدساتير الحديثة إلا وهو مفرد لحقوق الإنسان بابا من الأبواب أو صفحة من الصفحات.
ولو نظرنا في القرآن الكريم، وتصفحنا أحاديث الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، وقلبنا أقوال السلف الصالح الذين صدروا عن هذين المصدرين الفارعين الفارهين؛ لعلمنا أن لحقوق الإنسان في الإسلام موضعا لا ينكر، ومكانة لا تسامى، ومن أبرز ما يميز هذه الحقوق عما سواها أنها حقوق لا تلغى ولاتنسخ، فما أثبته الخالق عز وجل لا ينفيه مخلوق، وما أحكمه الله لا ينسخه بشر، وهي حقوق تعطى عن طواعية لا تنتزعها ثورة، ولا تؤخذ عنوة، وهي ليست بمنحة تتفضل بها حكومة من الحكومات أو يمتن بها أحد على أحد، والمنة لله الواحد الأحد الذي أعطى وحكم وشرع. وسأحاول في هذا المقال الوجيز أن أشير إلى بعض الحقوق التي سكبها الإسلام على الإنسان من غير مطالبة منه ولا مناداة ولا مناورة ولا ابتزاز، وهي إشارات سريعة ولمحات دالة لا سبيل إلى اللجوء فيها لإسهاب ولا تفصيل، ولو أراد أهل العلم والفقه والدراسة أن يؤلفوا فيها المجلدات الضخام لأمكنهم ذلك فللموضوع مصادره ومراجعه، وفيها من ألوان العلم و المعرفة ضروب. وأول شيء نبدأ به حق الحياة إذ أنه الأصل الأصيل الذي تنجذب إليه الفروع التابعة، وحق الحياة في الإسلام حق مقدس لايجوز أن تمتد إليه يد إلا بحق، وهو حق للإنسان من حيث هو إنسان فلا التفات إلى جنس، ولا التفات إلى دين، فللمرأة حقها كما للرجل حقه، وللكافر حقه كما للمؤمن حقه، ومن ذا الذي لا يعلم أن المرأة كانت تدفن وهي حية: { وإذا الموءودة سئلت . بأي ذنب قتلت }، ومن ذا الذي لا يعلم أنها كانت نذير شؤم وعلامة نحس وشارة فضيحة: { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم . يتوارى من القوم من سوء مابشر به أيمسكه على هون أو يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون }، فإذا بالشؤم والنحس و الفضيحة يتحول إلى هبة ومنحة وعطية: { يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور . أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما }. وانظر إلى هذا التقديم للعنصر النسائي الأنثوي فهو موضع تأمل واعتبار. لقد ظن بعض الجاهلين أن رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه سيصاب بشيء من خيبة الأمل لتوالي البنات عليه فإذا به يستبشر ببنت بعد بنات ويقول: (إنما هي ريحانة أشمها) وأكرم بالشامم والمشموم! ومن قتل امرأة قتل بها وأخذ، لا كما كان يحدث في الجاهلية إذ الدماء متكافئة والنفس بالنفس. لقد ذكر القرآن الكريم أن النفس حرمة لا تمس إلا بحقها وذلك في الأنعام والإسراء وفي غيرهما من السور الكريمات: { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا }، ولم يشأ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدع الباب مشرعا مفتوحا ليدخل منه الفقهاء والمفسرون والمتأولون ففسر القول الكريم {إلا بالحق} وجعل هذا الإستثناء منطبقا على حالات ثلاث خصصها بطريقة قاطعة، حتى يقطع الطريق على كل متأول مجتهد. وهكذا أصبح المجتمع مجتمعا مسلما تحفظ فيه الحقوق، وتصان فيه الحرمات، ولا يعتدى فيه على ضعيف: (من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه)، وما عاد الناس يحكمهم قانون الغاب كما كان يحدث في عهدنا هذا وفي كل عهد لا تسود فيه قيم السماء وآدابها. ماعاد القوي آكلا ولا الضعيف مأكولا فهناك جهة حاكمة منظمة تقتضي بالعدل وتحكم بالسوية وتفصل بالحق. كانوا يأخذون القانون في أيديهم فمن قتل له ولي ثأر بنفسه ولربما تجاوز حد الثأر فنال ما ليس له بحق. قالوا إن أبا خراش الهزلي قتل له أخ فما أخذ بثأره إذ لم يعد الأمر فوضى لا ضابط لها ولا حاكم، فلامته صاحبته على تقصيره في الأخذ بدم أخيه، فقال معتذرا إن أمر الجاهلية قد ولى وأننا أصبحنا محكومين بقوانين سماها هو بالسلاسل:
وليس كعهد الفتى يا أم مالك ** ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالشيخ ليس بقائل ** سوى الحق شيئا واستراح العواذل
 
وفي مجتمع يحكمه الإسلام لا مكان لفوضى ضاربة يأخذ الناس فيها القانون بأيديهم فيسفكون الدم الحرام، ويسلبون الضعيف، ويروعون الآمن... دم محفوظ وحرمة مصانة، وحق مكفول. وهذا كله من باب التكريم لهذا الإنسان: { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر و البحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا }. وانظر أخي القارئ هداني الله وإياك إلى هذا القول الرباني الجامع الذي لا يستثنى ولا ينتخب: { ولقد كرمنا بني آدم } بنو آدم بهذا الإطلاق الكريم الذي لا تقييد فيه ولا استثناء، ولقد أراد بعض المسلمين أن يسحبوا هذا الامتياز المطلق الذي أضفاه سبحانه على ولد آدم أجمعين فجاءهم الرد الكريم الرادع... قالوا مرت جنازة فوقف الرسول الكريم تكريماً للميت، فقالوا إنها جنازة يهودي وما أظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم بحاجة لهذا التنبيه، فلليهود شاراتهم وعلاماتهم وطقوسهم وعاداتهم التي لا تخفى في حياتهم ومماتهم، لكن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم استكثروا تلك الوقفة الكريمة فقالوها كالمنكرين: (إنها جنازة يهودي) فقال صلوات الله وسلامه عليه (أوليست بنفس؟)، ويالها من قولة نبيلة جليلة جزيلة ينبغي أن يقال لها الناس جميعا من كل دين ومذهب وملة ونحلة، لأنها تشرف الإنسانية كلها وهي تشير إلى المستوى المشرف والأفق الوضئ والتعامل الفارع الذي يتجاوز كل خلاف ونزاع وصراع (أو ليست بنفس) ؟! ومن باب التكريم حق التعليم، وهو حق مشاع للنساء والرجال، وهو ليس بحق فحسب ولكنه واجب وفريضة: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) وهو من الأحاديث النبوية الحسان، ونص السخاوي أن زيادة (ومسلمة) ضعيفة من حيث الرواية صحيحة من حيث المعنى، فكلمة (مسلم) كلمة جامعة تشمل الذكور والإناث، وما فتئ الرسول صلى الله عليه وسلم يشجع الناس على طلب العلم والتماسه، ويبين لهم فضله وأنه طريق إلى الجنة وباب من أبوابها، وأنه بمنزلة الجهاد في سبيل الله سواء بسواء: { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون }، وبهذا نشأ علماء وعالمات في كل مجال من المجالات، وبحسبنا أن نذكر من العلماء محمد ابن مسلمة بن شهاب الزهري ومن العالمات شيخته عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية التي ورثت علم عائشة رضي الله عنها، وقال عنها تلميذها بن شهاب: (لقد وجدتها بحر لا ينزح)، أي والله امرأة يلتمس ما عندها فإذا هي بحر لا تكدره الدلاء، وهكذا يفعل الإسلام فعله فيمن يرتضونه ويتمسكون به ويعملون بما فيه.
ومن باب التكريم هذه الحرية الفضفاضة التي يضفيها الإسلام على بني الإنسان، فهو وحده دون سائر الكائنات الذي مكن من قولة (لا)، وهو وحده الذي يملك حق (الإعتراض) على أن يتحمل مسؤولية (الاعتراض)، فالسموات والأرض ومن فيهن يسيرون وفق قانون لا يتخلف وخطة لا تتبدل، وسنة لا تتحول إلا الإنسان فمنهم مؤمن ومنهم كافر: { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن }، وانظر أيها القارئ المتأمل إلى هذا التقديم المدهش الذي كلما مررت عليه جحظت العينان وانفغر الفم، ويا للدهشة من كائن يخلقه الله بيديه ويسويه، ويرزقه من الطيبات، ويمهد له كل تمهيد فإذا هو كافر!! فالوضع الطبيعي أن يكون مؤمناً، ولكن الشذوذ كل الشذوذ أن يكون كافراً، ومن أجل ذلك كان ذلكم التقديم العجيب. لقد ترك الخيار لهذا الإنسان أن يسلك الطريق الذي يريد أما مؤمناً وأما كافراً: { إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً } ترك له الخيار بعد أن وهب أدوات العلم من سمع وبصر وفؤاد، وبعد أن أرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، وبعد أن قذف به في كون تحتشد فيه الآيات، وتتضافر فيه الأدلة، وتتضافر فيه الشواهد :
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد
 
ومن باب التكريم أنه جعل عبدا لواحد فلا سمع ولا طاعة عليه في معصية الخالق، ومن حقه على الحاكم ألا يسلمه ولا يخذله، ومن حقه عليه أن يشاور وألا يقطع أمر إلا وهو شاهد:
{ وأمرهم شورى بينهم } وألا يغيب كما غيبت تيم بزعم الشاعر:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ** ولا يستأذنون وهم شهود
 
وللناس أن يكونوا من الأحزاب والهيئات والتنظيمات والمدارس والمذاهب ما يمكنهم من تبليغ ما يرون للحاكم المسؤول الذي إنما هو واحد منهم إلا أنه أكثرهم حملاً كما قال عمر بن عبد العزيز. يتحدث الناس اليوم عن الحريات بضروبها المختلفة؛ حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم ...الخ وما علموا أن الإسلام يعطيهم هذا وزيادة، فإن قالوا من حق الإنسان أن يتكلم وأن يعبر عما في نفسه (Freedom of Speech ) قال له الإسلام ليس هذا بحق فحسب وإنما قد يتحول إلى واجب، فلا يجوز لك أن تسكت عن بيان في أمر لله فيه مقال، وهو واجب على الرجال والنساء جميعاً: { يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديداً } ،
{ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفاً } ، { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر }. ومن حق الناس عليكم أن تقول حسناً: { وقولوا للناس حسناً } ومن حقهم عليك أن تجادلهم بالمعروف وإن خالفوك: { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم }. والإسلام –بعد- دعوة للتحاور والتفاوض: { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } ،
{ وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين } { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين }، والناس إنما هم طوائف شتى فمنهم مؤمن يتابعك ويشايعك على ما أنت فيه، فأنت وهم كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وكاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وكافر مستجير يريد أن يسمع: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله }. ومن حقه عليك أن ترعى حرمته، وتؤمن روعته، وتبلغه مأمنه. وكافر يريد أن يمنعك حقك في أن تبلغ ما تريد ويعتدي عليك، ويصد عن سبيل الله ويبغيها عوجاً، فمن حقك أن تدفع عن نفسك ودينك وعرضك: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ، { أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } ، { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } وإن قتلت فأحسن القتلة، وإن أسرت فأكرم الأسير.
 

المراجع

شبكة المشكاة الاسلامية

التصانيف

عقيدة   شريعة   حقوق إنسان