السبت, 28 جمادى الأولى 1446هـ الموافق السبت, 30 تشرين الثاني 2024

الشعر الشعبي مصدر لأشياء كثيرة يهمنا أن نذكر منها أنه مصدر للسعادة عندما تحاصر الإنسان همومه يذهب إلى الشعر لينسى ويتسلى، مصدر لتلقي تجارب الآخرين والاستفادة منها، مصدر للحكمة والاتعاظ، مصدر للأمثال والمواقف، مصدر لكتابة التاريخ وبخاصة تلك القصائد الفرايد التي تدون لتؤرخ لحوادث معينة أو مناسبات خاصة والمناسبة قد تكون وقعة وقد تكون غير ذلك. لاشك أن هناك قصائد تعد مصدراً من مصادر التاريخ لكونها تؤرخ لحوادث معينة ومصداقيتها فيما يخص تلك الحوادث قريبة من الكمال، وان سألت عن سبب اتصافها بهذه المصداقية نجيبك بأن الشاعر قد يتجاوز حدود المعقول عندما يمدح شخصاً معيناً أو يصف مكاناً معيناً، وقد يتجاوز إلى الخيال عندما يصف جمال شيء معين، وقد يصل إلى حدود اللا معقول أو يتجاوزه في حالة هجائه لعدو له، أو في حالة أن يسلط من قبل آخرين ليهجو شيئاً ما.

وعندما يكون الشاعر أو الشاعرة يصف حدثاً قريب عهد منه يعرفه معاصروه وبخاصة خلال العصور القديمة غير البعيدة فإنه يميل إلى الصدق ويصف كل شيء بما يستحق. ويندر أن تجد شاعراً يوثق لحدث معين في وقته نظماً ويكذب أو يتجاوز أو يغوص في بحر الخيال، لأنه إن فعل فبفعله يجعل من نفسه عرضة للنقد والتكذيب من قبل معاصريه.

وعليه فإن هناك قصائد تؤرخ لحوادث بدرجة عالية من المصداقية، ولا نجد من توجه من الباحثين نحو الاستفادة من هذا النوع من الشعر وبخاصة القصائد التي تصف وتؤرخ لأحداث رئيسة. وعلى سبيل المثال: لو أخذذنا قصية "الزعبية" لوجدنا أنها تؤرخ لأحداث دارت، وتصف امتداداً مكانياً واضحاً، وتشخص مجتمعاً حضرياً وبدوياً بطريقة واضحة.

ومن هذا التكامل نجد أنها قصيدة تصف كياناً معيناً بخطوط عريضة تشكلها ثلاثة حيزات هي: المكان، والنوع، والعدد، وفي الثلاثة حيزات المذكورة ليس هناك مجال للمبالغة أو الكذب أو التجاوز إلى عالم الخيال، وبخاصة أن ناظمة القصيدة امرأة تصف حدثاً وقع في وقتها، وتجاوب على سؤال طرح عليها. ولكننا لا نعرف شيئاً عن تاريخ هذا الكيان حتى وإن كان كياناً على مستوى صغير كمشيخة أو امارة أو شيئاً من هذا القبيل لأن الباحثين لم يطرقوا مصادر تاريخيه مثل قصيدة "الزعبية" وغيرها من القصائد.

فانظر إلى قولها في وصف المكان في هذه الأبيات المختارة من قصيدتها عشوائياً:

يهيضني يا سباع دار ذكرتها

ولا عاد منها إلا مواري حيودها

دار لنا ما هيب دار لغيرنا

ما حدها الرمله ومارد عدودها

زعب هم أهل المدح والمجد والثنا

من الربع الخالي للحجاز حدورها

جينا الشريف بديرته والتقانا

كل القبائل جامع به جنودها

اشوف بالحره ظعون تقللت

وابوي حماي السرايا بذودها

في البيت الأول تبكي الشاعرة على زوال دولة أهلها، وفي البيت الثاني تأتي بتحديد عام لتلك الدار؛ وفي البيت الثالث تحدد في الشطر الأول للبيت انتماءها إلى قبيلة زعب، بينما في الشطر الثاني تحدد ديرة أهلها على أنها تمتد من الربع الخالي إلى الحجاز. وفي البيت الرابع تذكر أن حربهم كانت مع الشريف ولكن لا سبيل لنا لمعرفة ذلك الشريف أو عصره، وفي البيت الخامس تذكر موضعاً مكانياً يطلق عليه اسم الحرة التي جاءت في البيت معرفة بالألف واللام.

وعن مدة الحرب التي أزالت كيان أهلها تقول:

حربنا العداء والبنت نشوءٍ بها أمها

واليوم قد هو منوة العين عودها

ويفيد البيت انهم حاربوا لما يزيد عن خمس عشرة سنة وهذه المدة تثير عدداً من التساؤلات التي منها: أين وقعت هذه الحرب؟، ولماذا استمرت لخمس عشرة سنة؟ ومن الأقطاب المشاركون فيها؟

وانظر إلى قولها في تحديد العدد:

تسعين مع تسعين وألفين في فارس

تحت صليب الخد تطوي لحودها

ألفين بيت نازلين جبالها

وألفين بيت بالمظامي ترودها

في البيت الثاني تحدد الشاعرة عدد سكان القرية أو المكان الذي حدث حوله الخصام على انه يبلغ أربعة آلاف بيت ما بين بادية متنقلة وأناس مقيمين في الجبال. وفي البيت الأول تذكر أن عدد المقاتلين يبلغ ألفين ومائة وثمانين فارساً، وعدد كهذا لابد أنه منتقى من مجموعة بشرية كبيرة، لأن المقاتلين هم جماعة منتخبة من التجمع السكاني.

ومما لاشك فيه أن هناك أشخاصاً أفاضل عملوا على توثيق الشعر الشعبي ومنهم خالد الفرج ومنديل الفهيد وابراهيم اليوسف وعبدالله بن عبار العنزي وصاحب الجهد الكبير محمد سعيد كمال في مشروعه الذي نتج عنه جمع أعداد ضخمة نشرها تحت عنوان "الأزهار النادية من أشعار البادية". ولولا جهود من ذكرت من الباحثين وغيرهم لضاعت ثروة تاريخية كبيرة دونت لأحداث الماضي الذي لا يوجد بخصوصه شيء يذكر من الكتابات.

وإلى جانب أصحاب الجمع والتوثيق يوجد باحثون بذلوا جهوداً في دراسة الشعر الشعبي وجلهم ان لم يكن جميعهم توجهوا إلى دراسة الشعر الشعبي من حيث تأريخه وأصوله وتسميته وانتشاره المكاني ومن هؤلاء نذكر خالد الحاتم وطلال السعيد والشيخ ابو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري في موسوعته المسماة "تاريخ نجد في عصور العامية: ديوان الشعر العامي بلهجة أهل نجد" والمكونة من ستة أجزاء، وكذلك جهود الأستاذ الدكتور سعد بن عبدالله الصويان الذي نشر عدداً من الدراسات من أحدثها كتابه المعنون "الشعر النبطي: ذائقة الشعب وسلطة النص"، وفيه تتبع الشعر الشعبي لتأريخ الشعر نفسه من خلال إيراد الأمثلة التي استطاع أن يجمعها من المخطوطات ومن الكتب ومن مصادر أخرى، وفي الكتاب قدم أيضاً دراسة لما سبق دراسته، ويتضمن العمل نقداً لبعض النظريات والطروحات وقضايا بحثية عديدة.

وما نحتاجه في الوقت الحاضر هو جمع القصائد الرئيسة ذوات المضامين التاريخية ودراستها دراسة توجه لاستخلاص التاريخ.



المراجع

alriyadh.com

التصانيف

شعر  ملاحم شعرية