كانت ليلة شتوية باردة تحلقنا كعادتنا حول مدفأة المازوت نلصق عليها رقاقات الخبر حتى يتحمص ثم نستمتع بأكله. كان البعض يلف نفسه ببطانية صوفية أو لحاف حتى يزداد دفئا وكانت الصغيرة تتمدد في حضني تلعب بلحيتي حينا وتقبلني حينا وأنا أضع في فمها قطع الخبز المحمص وهي تنظر إلى البقية بتباهي لأنها تحظى بالاهتمام الأكبر بينهم.
رفعت رأسها وقالت:" بابا ! احكي لنا قصة عن أيامك زمان."
نظر الجميع إلي وكلهم قالوا:" نعم بالله عليك احكي لنا......."
قالت الكبرى: " قص لنا كيف تعرفت على أمي."
قلت" انتم الآن تذهبون إلى المدارس، ولديكم الكتب وفي منهاجكم القصص. أما أنا فلم أحصل إلا على التعليم البسيط على يد إمام المسجد. الذي تعلمت على يديه بعض سور القرآن الكريم والقراءة وقليلا من الكتابة. مع ذلك سأقص عليكم ماحدث معي سنة 1952."
"كنت شابا في العشرين من عمري وكنت أساعد والدي في أمور الزراعة. نحرث الأرض ونزرعها، ثم أسافر لأعمل في منطقة أخرى لحين موسم الحصاد فأعود لأساعد والدي في جمع الموسم وكنا اعتدنا على زراعة القمح والشعير."
" في تلك السنة قررت أنا وعدد من أصدقائي أن نسافر إلى لبنان. وبالفعل عزمنا الرأي على ذلك. وصتني والدتي أن لا أتأخر عن موسم الحصاد. وأن أحرص على عدم التبذير. لأنها قررت أن تزوجني عند عودتي."
"وبالفعل . سافرنا إلى لبنان. وما أجملها من بلد. أما بيروت من أجمل المدن وشعبها من ألطف ما رأيت. وجوها رائع وهواؤها منعش وطعامها مختلف ولذيذ. كانت تجربة جديدة لنا . من أجمل تجارب حياتي. بدأنا بالعمل فور وصولنا. نعمل في كل شئ. في الحفر، والتحميل والتنزيل وتنظيف الحدائق....أي شئ. كنا نتجمع في منطقة محددة اسمها سوق العمال ويأتي من يحتاج إلى عمال فيأخذ العدد الذي يريد بعد أن يتفق معهم على نوع العمل والأجر. عملنا في بيروت لمدة خمسة شهور، ثم قرر أصحابي الذهاب إلى جبل لبنان لأنه موسم قطف التفاح الذي يستمر لفترة محدودة وهناك الأجور أفضل. ذهبنا إلى جبل لبنان وبنفس اليوم اتفق معنا شخص أن نعمل لديه. فبستانه يحتاج لشهر لينتهي. كانت الفترة هناك من أجمل ماقضيت في حياتي. ساعات عمل محدودة، أجور مرتفعة، صاحب العمل رجل محترم والأكثر لطفا منه كانت زوجته التي كانت تعاملنا كأبنائها. ذات مساء بعد الانتهاء من يوم عمل قلت لصاحب العمل أريد أن أسافر لقد اشتقت لأهلي وأخوتي، وموسم الحصاد اقترب لا أستطيع أن أتأخر عن والدي. كانت مفاجأة للجميع حتى أصحابي استغربوا مني هذا. وحاول الجميع ثنيي عن قراري ولكن بلا فائدة. صاحب العمل قال لي يابني لم يبق إلا أسبوع أكمله عندي وسأعطيك زيادة في الأجر. قلت له لاأستطيع. عندها أخذت منه مستحقاتي. ثم انتظرت لليوم التالي لأن حافلة القرية تذهب إلى بيروت في الصباح وتعود عند المغرب والطائرة التي سأسافر بها لها رحلة مغادرة واحدة في الأسبوع وهو ذلك اليوم. وبالفعل حزمت أمتعتي وأمانات أصحابي وفي اليوم التالي سافرت إلى بيروت. المخطط هو لدى وصولي الى بيروت علي الذهاب إلى مكتب السفر لأحجز تذكرة على تلك الطائرة ويجب ألا أتأخر لأنني إن تأخرت فعلي الانتظار أسبوعا كاملا حتى موعد الرحلة التالية.
نزلت من الحافلة وكنت أهم بطلب تاكسي ولكن هناك وعلى مقربة وقفت فتاة وكأنها قطعة من البدر. لا أستطيع أن أقارنها بامرأة لجمالها طولا وشكلا شعرها عيونها من أحسن ما خلق الله. لقد سحرتني بالفعل حتى أنني وقفت مذهولا لا أدري ما افعل نسيت حقيبتي وأخذت أحدق بها وهي مرة تنظر إلي ومرة تخفض نظراتها عني وأحيانا تنظر إلي خلسة نظرت حولي فوجدت مقعدا خشبيا على طرف الشارع فسحبت حقيبتي وجلست عليه أفكر .إلى ماذا سيؤدي هذا الموقف؟ نصف ساعة كاملة وهي واقفة في مكانها وكأنها تنتظر شخصا ما. فتحت حقيبتها وأخرجت دفترا صغيرا نزعت منه ورقة ثم كتبت شيئا و سارت باتجاهي وألقت الورقة أمامي ثم دخلت مبنى الكراج. أخذت الورقة وفيها: مقهى الأحبة الساعة الرابعة بعد الظهر.
ياإلهي ماذا أفعل إنه موعد الطائرة والساعة الآن العاشرة صباحا ويجب أن أذهب إلى مكتب السفر لأحصل على تذكرة. فكرت ولكن شيئا بداخلي كان يحثني على ملاقاتها. ركضت خلفها إلى الكراج ونظرت وبحثت عنها ولكن لم أجدها. كانت قد خرجت من الباب الخلفي. واستجبت لقلبي. انتظرت ساعات كأنها شهور ثم طلبت تاكسي ليأخذني إلى المكان المحدد وصلت قبل الموعد بساعة ووقفت عند الباب انتظر قدومها انقضت الساعة. بعدها صرت مرة أدخل انظر داخل المقهى ومرة أخرج أراقب الشارع. ومرت الساعة الثانية ولم تظهر صار موقفي مثيرا للشك. وأصبحت في حيرة. ماذا أفعل؟ لقد فاتتني الطائرة وذهب أملي في لقاء الفتاة وبقائي هناك أثار استغراب الناس. أخيرا حملت حقيبتي واتجهت نحو موقف الحافلة لأدرك رحلة عودتها إلى القرية وإلى أصحابي. فوجئ الجميع لرؤيتي وكانت فرحة صاحب المزرعة لاتوصف. قلت له لقد فكرت بعرضك علي البقاء وزيادة الأجر لذلك عدت. وهو أسبوع واحد لن يؤثر. قال:"نعم، نعم .مفهوم مفهوم"
أكملنا الأسبوع عند ذلك الرجل ولكنني طوال تلك الفترة لم أنقطع عن التفكير بتلك الفتاة لقد استولت على كامل تفكيري. وعند الرحيل أخذني صاحب المزرعة جانبا وقال لي : لي عندك طلب. عدني بأن تنفذه لي. قلت له إن شاء الله سأنفذه. قال هذه الرسالة لاتفتحها إلا عندما تصل إلى قريتك." وفعلا وعدته بذلك وأخذتها منه ووضعتها في جيبي ثم رحلنا. قلت في نفسي وأنا في الطائرة لماذا في القرية فهي ليست إلا مبلغا إضافيا من المال على إخلاصي في العمل... وتنازعنني قوتان ، افتح....لا تفتح. لكنني لم أصبر. أخرجت المغلف من جيبي وفتحته وإذا به ورقة مطوية وعليها: سامحني يابني على مافعلته بك كي حتفظ بك لأسبوع إضافي. عمك جوني."
يا إلهي. بدأ وجهي يتقلب. تسارع نبضي وتعرق جبيني. ياللمفاجأة التي لم تخطر على بالي
ثم انفجرت بالضحك بأعلى صوتي لدرجة أن جميع من في الطائرة نظروا باتجاهي وركضت المضيفة تسألني مابي. وبعد تدارك الموقف قلت لها تذكرت نكتة قالتها لي خطيبتي"
مازلت إلى الآن أحتفظ بالورقتين . ها...هل أعجبتكم الحكاية؟"
نظرت حولي وإذا الجميع نيام باستثناء زوجتي .

المراجع

موسوعة القصة السورية

التصانيف

الادب