الفن التشخيصي
 
 
 
كلّ فن يسعى إلى تفسير الواقع الموضوعي وتمثيله هو فن تشخيصي art figuratif. منذ نشأة الفن، سواء أكان تصويراً أم نحتاً، كان هدف الفنان تشخيص الكائنات الحية في عمله الفني، وكان هدفه في العصور الحجرية تسجيلياً يذكّر بالحيوانات التي كان يتحاشى عدوانها ووحشيتها، أو كان يسعى إلى تجسيد انتصاره عليها.
 
وفي بداية التاريخ، كانت الموضوعات التي ترسم أو تنقش أو تنحت تعبر عن الحياة اليومية، والأحداث السياسية والاجتماعية في الفنين المصري والرافدي، أو كانت أسطورية في الفنون الهندية والصينية والمكسيكية.
 
وفي العصور الكلاسية وصل تشخيص الصور الإنسانية إلى كماله، وقد تجلّى ذلك في المنحوتات الإغريقية التي تركها فيدياس Phidias أو التي نسخت عن ميرون Myron وبوليكليتوس Polyclitus، والتي قامت على مقاييس رياضية عمادها طول الرأس، ويصبح طول الجسم 7 أو 8 أمثال هذا الرأس. وانتقلت هذه التشخيصية الرياضية الدقيقة إلى الفن الروماني.
 
وفي العصور المسيحية، كان تصوير الأيقونات بعيداً عن الدقة، ميّالاً إلى الرمز في الفن البيزنطي، ثمَّ عاد في النحت القوطي المتصدر واجهات الكنائس، ليصبح أقرب إلى الواقع.
 
واعتمد فنانو عصر النهضة الإيطالية على القواعد الكلاسية الإغريقية-الرومانية، وكان ميكلانجلو Michelangelo دقيق التقيد بالشكل الإنساني وبتفاصيله التشريحية، سواء في منحوتاته المعروفة، ومثاله تمثال داود، أم في الصور الجدارية الملونة التي مازالت ماثلة على جدران كنيسة السكستين Sixtine، وسار على غراره ليوناردو دافنشي Leonardo da Vinci ورافايلو Raffaello وفنانو البندقية.
 
رافايلو: «مدرسة أثينا» (1509-1510)
 
وانتشر هذا الفن التشخيصي في جميع أنحاء أوربا، وكان شديد الارتباط بالواقع مع بعض التحوير أحياناً في عصر الباروك baroque. ثمَّ صارت الموضوعات لا تقتصر على الجسم الإنساني، بل امتدّت إلى مشاهد الطبيعة، وإلى موضوعات اجتماعية تتوخى في النقل والتمثيل البراعة والجمال والتزيين، بأسلوب أكثر جرأة في التحوير. وما إن أطلَّ القرن العشرون حتى ظهرت تيارات فنّ لا تعتمد على التشخيص، أطلق عليها اسم الفن غير التشخيصي l’art non figuratif أو الفن التجريدي l’art abstrait.
 
ولم يكن هذا الفن المجرد طارئاً، بل إنَّ جذوره قديمة، تظهر في جميع أعمال الزخرفة التي تعتمد على تأويل النباتات أو على توظيف الأشكال الهندسية المجردة في تكوين شبكة من الخطوط الجابذة النابذة، وهكذا كان شأن الرقش العربي arabesque الذي عبّر عن روحانية الفن الإسلامي والعربي بصيغ مبدعة غير تشخيصية تتوخى التعبير عن المطلق.
 
مرَّ الفن التشخيصي بمراحل مضطربة عبر تاريخه، فلم يكن دائماً شديد التقيد بالواقع، بل وصل أحياناً إلى حدود التبسيط والتوضيح السردي، في المرقنات العربية، كما في أعمال الواسطي، أو وصل إلى حدود التقيد بأسلوب نمطي في تشخيص الواقع والكائنات كما في المنمنمات الفارسية. وكان الفن المصري نمطياً يخضع لجمالية خاصة استمرت عشرات القرون.
 
وفي الفن الحديث تمسك أكثر الفنانين بالتشخيص، ولكن بجهد مقصود في تحوير الواقع والشكل الإنساني، كما بدا ذلك عند بيكاسو Picasso وفرنسيس بيكون F.Bacon وغيرهما، محاولة لإسقاط فكر جمالي أو ملامح فاجعة على الشكل، بتحويره عن واقعه إلى حدود التشويه أو التبسيط كما فعل ماتيس Matisse وبول كلي P.Klee.
 
بيكاسو: «غيرنيكا» (1937)
وممّا لاشك فيه أن هذه المحاولات خرجت عن مفهوم التشخيص القائم على إدراك الواقع بذاته، ونقله بأمانة وبراعة نقلاً معتمداً على قواعد في التشريح والمنظور، إلى مفهوم يقوم على التخيل والإسقاط، وعلى خصوصية الرؤية التي مثلت أسلوب الفنانين المعاصرين ووصلت بهم إلى تصوير اللاشيء.
 
لقد كانت الأكاديميات الفنية، ولاسيما مدرسة الفنون الجميلة في باريس، حريصة كلَّ الحرص على تطبيق القواعد التشخيصية التي فرضتها الأكاديمية برعاية دافيد David وأنغر Ingres، ولكنها منذ ستينات القرن الماضي، فتحت الباب واسعاً لحرية الأستاذ والطالب في معالجة الموضوعات بتشخيصات ذاتية، وحذت أكثر أكاديميات الفنون في العالم، ومنها الأكاديميات العربية حذو هذا التحول، بل أصبح معيار الفن الحديث تجاوز التشخيص ولو وصل بهم إلى حدود القطيعة الكاملة والعدمية.
 
عفيف البهنسي
 

المراجع

الموسوعة العربية

التصانيف

الأبحاث