ربما يكون أهم ما تمخضت عنه مسيرة الجمعة هو العودة إلى أو الاقتراب من العقد الاجتماعي المنظم للحياة العامة والسياسة العامة. فروح الانضباط والمسؤولية والتنظيم الجيد للمتظاهرين، والاحترام والالتزام بحماية المتظاهرين لدى الحكومة وأجهزتها الأمنية، تؤكد أننا قادرون على تنظيم حياة سياسية راقية ومتقدمة، وأن المقاطعة تشكل تحديا للانتخابات لتكون أكثر نزاهة، وفي ذلك مكسب كبير للمقاطعين والمشاركين معا، لأن مجيء مجلس نواب مستقل وقوي يفيد المعارضة حتى وهي خارج المجلس، ويؤسس لمشاركة قادمة أكثر فاعلية ونزاهة. ولو أن قيادة الإخوان والمعارضة دعت إلى المشاركة في التسجيل للانتخابات، وأكدت حرصها على نجاح الانتخابات ونزاهتها مع مقاطعتها في الوقت نفسه، فإنها سوف تضخّ في الحياة السياسية قيما ودوافع نبيلة وقوية جدا.
فجماعة الإخوان المسلمين تقوم أساسا وتاريخيا على الإصلاح، والاقتراب من الأهداف العامة والكبرى للمجتمع، بغض النظر عمن يتولى هذه الوسائل والآليات المتجهة نحو الإصلاح والأهداف. ولم تكن الجماعة معنية بأن يكون الإصلاح عن طريق المشاركة المباشرة، ولأجل ذلك كانت فكرة وفلسفة حزب جبهة العمل الإسلامي، لأن الجماعة كانت تسعى أن تكون قاسما مشتركا بين جميع المواطنين، وأن تعمل مع جميع الاتجاهات والأفراد والمؤسسات، وأن تستخدم حيادها السياسي وعزوفها عن المغانم والمكاسب المباشرة لأن تكون حارسا للقيم الأساسية للدولة والمجتمع، ومرجعا للمجتمعات والناس على اختلاف اتجاهاتهم ومواقفهم.
حدث، كما هو واضح، في السنوات الأخيرة خلط كبير بين دور وفلسفة حزب جبهة العمل الإسلامي وجماعة الإخوان المسلمين. ولكن ذلك يمكن إصلاحه وصيانته بسرعة، إذا توافرت الرؤية والإرادة باتجاه ذلك. وحتى حزب جبهة العمل الإسلامي نفسه يفترض أنه لا يحظى تلقائيا وكليا بتأييد الجماعة؛ فقد تقف الجماعة على الحياد مع جميع الأحزاب، وقد تقلل أو تزيد من دعمها لحزب ما، أي حزب، بما في ذلك حزب الجبهة. وهذه الشراكة المؤسسية التي أوقعت الجماعة نفسها فيها مع حزب جبهة العمل الإسلامي تضر بالحزب وبفلسفة الجماعة ورؤيتها، وما يزال مثال جمعية المركز الإسلامي يصلح للتذكير وإعادة التذكير. ففي مرحلة من العمل الدعوي والإصلاحي، اجتذبت الجمعية تبرعات من البنوك والشخصيات والمؤسسات المختلفة والمتعددة الاتجاهات. وقبل ذلك، في الأربعينيات، تلقت الجماعة مشاركات مالية وعضوية من المسيحيين، فكان أكبر تبرع لحملة الجماعة للمشاركة في دعم القضية الفلسطينية العام 1948 قدمه عبده الشاعر، والد كمال وجمال الشاعر.
مقاطعة الانتخابات يفترض أنها ليست مقاطعة للحياة السياسية، ولا محاولة لإفشالها أو تعطيلها، ولكنها محاولة للتأثير في الحياة السياسية والارتقاء بها؛ فأخطر ما يصيب الحياة العامة بالخطر هو العقل الباطن الانفصالي عن القواعد والتقاليد العامة المؤسسة للدولة والمجتمع.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة ابراهيم غرايبة جريدة الغد