فن الرسم الساخر (كاريكاتور)
يُعرّف الكاريكاتور Caricature بأنه فن رمزي تهكمي هجائي، يُركّز على المبالغة في التفاصيل والملامح، ويعتمد على دقة الملاحظة وسرعة البديهة، لإبراز موقف أو عنصر ما من العناصر الحياتيّة، وهو فن يتطلب موهبة خاصة في المشتغل عليه، ليس على صعيد الرسم والتمكن من ناصيته وتقاناته فحسب، وإنما على صعيد حسن الدعابة والفطنة والقدرة على التقاط المفارقات السياسيّة والاجتماعية وتحويلها إلى رسم كاريكاتوري معبّر.
سجلت البرديات الفرعونيّة أقدم تاريخ لفن الكاريكاتور، فقد جاء في إحداها رسم لشجرة فوقها فرس النهر في حين يحاول نسر الصعود إلى الشجرة بصعوبة، مستخدماً سلّماً. وفي رسم آخر، ظهرت قطة ضخمة قوية، تقدم الطعام لفأر صغير. وقد جعل المصريون القدماء للفكاهة إلهاً دعوه «بسي» وتركوا العديد من الرسوم التي تدل على الجانب النقدي والساخر في طبائعهم.
اشتقت مفردة «كاريكاتور» من الكلمة اللاتينية «كاريكاره» caricare، ومن الإيطالية «كاريكاتورا» caricatura وتعني حمَّل أو شحن، كما أن للكاريكاتور صلة قريبة بالكلمة الإنكليزيّة character وتعني الشخصّية، وكأن الكاريكاتور يكشف خبايا الشخصية.
وفي الوقت الذي يُنسب فيه الكاريكاتور إلى إيطاليا، ينسبه آخرون إلى بريطانيا أو فرنسا. ومنهم من يرى أن هولندا هي بلد المنشأ الحقيقي له، حتى إن أصل التسمية، خضع لاجتهادات واختلافات، فالأغلبية تُجمع على الأصل اللاتيني لكلمة «كاريكاتور»، لكن المشكلة تكمن في تفسيرها. فهناك من يقول إن الكاريكاتور كلمة فرنسية تعني التشخيص، وآخرون يرون أن هذه الكلمة مشتقة من كلمة لاتينية هي «كاريكا» وتعني الساخر، المشوَّه المُبالغ فيه، المزيف، المثير. وفي تفسير آخر: الكاريكاتور كلمة إيطالية تعني رسماً مضحكاً يغالي في إبراز العيوب والمفارقات، وهناك رأي مغاير يرد كلمة caricare إلى charger أي الشحن.
«انسحاب روسيا»: رسم كاريكاتوري يمثل مطاردة الجيش الروسي للثعلب الكورسيكي (تشرين الثاني 1812)
«تحولات النهار، زواج تبعاً للقوانين» (1828)
ويُشير آخرون إلى أن كلمة كاريكاتور هي من أصل إيطالي وتعني تضخيم المعنى والشكل بصورة مقنعة، وإنَّ الدراسات التشريحيّة التي خطَّها الفنان ليوناردو دافنشي Leonardo da Vinci وخالف بها قواعد التشريح في رسم الوجوه تحديداً، هي البداية الأكثر نضجاً ووضوحاً، والأكثر تبلوراً لفنّ الكاريكاتور.
وبأسلوب تهكمي كاريكاتوري عبّر دافنشي عن استيائه من الحرب، فرسم معركة أنغياري Anghiari الشهيرة التي وقعت بين الفلورنسيين وأعدائهم.
وفي إيطاليا أيضاً، ظهر الفنان أرتشيمبولدو Arcimboldo الذي عُرف برسمه وجوه الأمراء والسياسيين والقادة الكبار والمثقفين عبر جمعه أصنافاً عدة من الفواكه والخضراوات، بحيث يظهر وجه الشخصيّة المطلوبة بشكل ساخر، فيه كثير من الفطنة والنضج. وبعد سنوات عدة، ظهر فنان فلمنكي يدعى جيروم بوشJérôme Bosch مابين(1460-1516)، تميَّزت ريشته بمبالغة صريحة لازمته في أكثر رسومه، علماً أن السخرية لم تكن هدفه الأول، ذلك أن البعد اللاهوتي كان حاضراً أبداً في أعماله التي تستوحي موضوعاتها من الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد.
ثمَّ جاء الهولندي بروغلBruegel مابين(1525-1569) بريشته المتأثِّرة ببوش وأسلوبه في المبالغة، وتجاوز للقوالب الأكاديمية، ومبالغته في رسومه إلى حد كبير. وفي ألمانيا ظهر شونغاور Schongauer نحو (1445-1491) وهولبينHolbein مابين(1497-1543). لكن مع ظهور أنيبال كاراتشيAnnibale Carrache مابين(1560-1609) في بولونيا الإيطالية حصل تغير فعلي وداعم لنشأة الكاريكاتور، وأكثر النقاد يرون أنه رسم لأجل الإضحاك، وبذلك ربما يكون أول من رسم لهذا الهدف. ولأهمية هذا الفنان، يظن بعضهم أن كلمة كاريكاتور مشتقة من اسمه كاراتشي. أما الإيطالي غِتْسيGhezzi مابين(1674-1755) فقد رسم بطريقة مشابهة لأسلوب الكاريكاتور المعروف حالياً. وقد أنجز أكثر من ثلاثة آلاف رسم بهذا الأسلوب. على حين يُعدُّ الإنكليزي هوغارتHogarth مابين(1697-1764) الأول في تخصيص رسومه بالنقد الاجتماعي. وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر، أطلَّ توماس رولاندسونThomas Rowlandson مابين(1756-1827) مع مجموعة من الفنانين الإنكليز المميزين بأفكارهم وخطوطهم، على الرغم من تأثير هوغارت وتجلّي مناخاته في أعمال هؤلاء الفنانين الذين دعموا أسس فن الكاريكاتير، وأسهموا في بلورته فناً قائماً بذاته.
وفي إسبانيا، كانت النقلة مع مجموعة النزوات التي رسمها الفنان غويا Goya في العام 1796-1798، وهي مجموعة من الرسوم الصغيرة بالأسود والأبيض، حفرها على المعدن وطبعها، وتتألف من ثمانين عملاً خصصها لمهاجمة الخرافات والحماقة والسحر والشعوذة والتقاليد والفضائح، خصوصاً ما يتعلق بالسلطة، وقد نفَّذها بأسلوب يخالف التقاليد الفنية، فرسمها بطريقة كاريكاتورية خاصة.
وهكذا بدأت أوربا تعرف هذا الفن الذي انتشر بسرعة كبيرة، وصدرت له أول مجلة في العالم في فرنسا حملت اسم شاريفاري Charivari، وكانت تصدرها مدرسة أسسها الفنان الفرنسي دومييه Daumier. ثم توالى ظهور المدارس لهذا الفن، فظهرت المدرسة الألمانية والإنكليزيّة وغيرها، لكن العصر الذهبي للصحافة الساخرة، كان بين عامي 1860 و1890 حينما ظهرت عشرات الصحف المختصة بفن الكاريكاتور في (برلين) و(باريس)، غير أنها كانت سريعة الزوال.
أما في الولايات المتحدة، فقد ظهر هذا النوع من الفنون التشكيلية في بداية القرن التاسع عشر، وكان للفنانين الأمريكيين الفضل في إدخال طريقة للتعليق على الرسم، وذلك بوضع الكتابة ضمن حلقة متصلة بفم الشخص المرسوم، وقد كان توماس فاست أشهر الرسامين الأمريكيين في ذلك العصر.
أما فن الكاريكاتور العربي الحديث، فقد كانت بداياته في العام 1877، عندما قام يعقوب بن صنوع بإصدار جريدة ساخرة في القاهرة باسم «أبو نضارة زرقاء»، وهي الأولى من نوعها في الشرق من ناحية مضمونها الهزلي الكاريكاتوري. وكانت الخطوة التالية مجلة «الكشكول» التي صدرت في العام 1921 وقد تعاملت منذ صدورها في القاهرة مع الفنان الإسباني «خوان سانتس». ثم جاء الأرمني صاروخان الذي رسم في مجلة «روز اليوسف» ثم مجلة «آخر ساعة». بعده جاء الفنان المصري محمد عبد المنعم رخا الذي أصدر مجلة «اشمعنى» الكاريكاتورية الساخرة وهو في الثامنة عشرة من العمر، ثمَّ تتالت بعدها سلسلة طويلة من المختصين في هذا المجال. أما في سورية فقد صدرت أول صحيفة هزلية عام 1909 باسم «ظهرك بالك» وعبر أربعة عقود أطلَّت 44 صحيفة هزلية وغابت. وأشهر هذه الصحف كان «حط بالخرج» و«النديم» و«المضحك المبكي». كان فن الكاريكاتور ولم يزل، فاعلاً في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، معبراً عن رأي الشارع العربي وآماله وتطلعاته ومحاولة فضح الأخطاء والعيوب وكشفها، صريحاً واضحاً أحياناً، خجولاً غامزاً في أحايين أخرى، مستنكراً، معترضاً، يائساً، حسب الحالة، وحسب المباح والممنوع، والمرغوب والمطلوب.
«أوغست فاكيري» (كاريكاتور لأندريه جيل في مجلة الكسوف؛ 3 تشرين الثاني 1872)
وفن الكاريكاتور لا يمكنه أن يفعل شيئاً من دون الصحافة، فهي الحضن الذي نشأ وتطور فيه، وبوساطتها، وصل إلى القطاع العريض من الناس، وقام بدوره التحريضي والإصلاحي والنضالي.
تتناول إشارات ورموز رسوم الكاريكاتور موضوعات مختلفة، بصيغة مختزلة تُفهم على الفور، وبلمح البصر. تحاول هذه الإشارات والرموز وأحياناً الكلمات والنصوص، التشخيص والدلالة على شيء ما، كما تحاول التعليق على الأحداث، لذلك فهي تعيد قياس الأشياء ودراستها، وتحويل الهفوات في الحركة إلى فكاهة وتسلية تستدعي إسقاطات وتأويلات معينة.
يأخذ الكاريكاتور الحدث العادي الواقعي، ويُعيد بناءه وفق نظام جديد، ليكشف عن الملامح الدفينة والعميقة للأشياء والأحداث. لهذا فإن الكاريكاتور يقدم لنا دائماً معنًى جوهرياً مركزاً ومفاجئاً، وأحياناً لا معقول، ومع ذلك يبقى ملتصقاً بالواقع، ليستعير أشكاله وإشاراته المختلفة، ومن ثم شحنها وتطويرها.
إن الرسوم الكاريكاتوريّة، وإن بدت أحياناً مسلية ومضحكة، إلا أنها تحمل معاني الهجاء والسخرية والتهكم، عن طريق استعمال التورية والتلميح. ولعملية الاختزال والتحوير والتشويه في الكاريكاتور، أصولها وقواعدها، كونها تتطرق إلى ميادين الأخلاق والمجتمع والسياسة.
يعتمد فن الكاريكاتور على لغة الرسم التي تتلاءم كثيراً مع أهدافه. وتعاون الكلمة مع الرسم الكاريكاتوري هو تعاون بين نوعين من الإشارات المتميزة، وكثيراً ما حوّل فنانوه الكلمات والأحرف إلى وجوه وأشكال مضحكة، ممَّا جعل الكلمة تلتقي بالصورة.
من أسس الكاريكاتور الرئيسة، قلب المعنى العام للحدث وتبديله، وعرض الحدث على مراحل عدة.
للكاريكاتور علاقة وثيقة بالصحافة المقروءة وفن الكتاب، فهو دائم الحضور في الصحف اليوميّة، والمجلات الأسبوعيّة والدوريات، وبعض الكتب الساخرة، وأحياناً يأتي على شكل رسوم توضيحيّة، لقضايا وأفكار تحمل طابعاً نقدياً هجائياً، بينها قضايا فكرية واقتصادية واجتماعية وسياسيّة. كما تربطه اليوم، علاقة وثيقة بالتلفاز، حيث بات يُرسم في برامج كثيرة تبث في العالم، ويتناول موضوعات رياضية، وأمثال شعبية، وقضايا سياسية راهنة، وبعض المظاهر الاجتماعية وغيرها. والكاريكاتور التلفزيوني يستغرق وقتاً طويلاً بين التصوير والمونتاج. ويستعمل بعض رسامي الكاريكاتور الحاسوب في تنفيذ أعمالهم، في حين يعتمد بعضهم الآخر، الطريقة اليدوية في رسمه، ثم تصويره. كما يرتبط الكاريكاتور بفن الرسوم المتحركة، بحيث يمكن القول، إن أهمَّ فناني الرسوم المتحركة في العالم هم في الأصل رسامو كاريكاتور. وفي الآونة الأخيرة، لجأ عدد كبير من المشتغلين في فن الكاريكاتور، إلى استخدام الحاسوب في رسم أعمالهم وتلوينها، مما يجعلهم يختصرون الوقت والجهد، ولاسيما أولئك الذين يقومون بالرسم يومياً. ويعمد أكثر رسامي الكاريكاتور في العالم، إلى التميز بتواقيع لافتة من حيث الشكل أو المضمون، فيناورون بالأحرف واحتمالاتها، أو يضيفون أشكالاً أخرى إلى تواقيعهم، لخلق خاصية تحوّل التوقيع كعنصر مستقل، عن مضمون الرسم، إلى عنصر له جاذبيته. كما اعتمد عدد من الرسامين على رموز وأشكال وإشارات ثابتة أو متحركة، دائمة الحضور في رسومهم، ما يجعلها تسهم في بناء شخصياتهم الفنية، وتكوين علاقة خاصة بينهم وبين المتلقي، مثال ذلك شخصية «حنظلة» التي لم تغب عن رسوم فنان الكاريكاتور الفلسطيني الراحل ناجي العلي. من أشهر فناني القرن العشرين المشتغلين في هذا الحقل: الأرجنتيني كينو Keano، النرويجي هاجن Hajn والإسباني فيرناندويويغ روسادو Fernandoyouyog Rousado والألماني بيتر كاست Peter Kast والبريطاني بيل ستوت Bill Stout والهندي باريش ناتاه Barish Natah والإيطالي باولو دالبونته Paulo Da Lapounte والروسي فلاديمير نيناشيف Vladimear Ninashef والأمريكي لوري Laure والفرنسي كلود سير Claude Sear والكرواتي عصمت فولجوفيكا Esmat Folgoveca والروماني رادو إليان Rado Alean والتركي كامل يافوز Kamel Yafous والإيراني مصطفى رمضاني Moustafa Ramadani. ومن الفنانين العرب: من مصر صلاح جاهين ومحمد عبد المنعم رخا، ونبيل السلمي، ومصطفى حسين، وجمعة فرحات، وعمرو سليم. ومن لبنان محمود كحيل، وملحم عماد، وستافرو جبرا، وعبد الحليم حمود، وبيار صادق، ونبيل قدوح، وجان مشعلاني. ومن ليبيا محمد الزواوي، ومن المغرب العربي الصبان، ومن الجزائر رشيد قاسي، ومن الأردن جلال الرفاعي ومن العراق رضا حسن، وفيصل لعيبي ومن فلسطين ناجي العلي، وأميمة جحا، ونبيل أبو حمد ومن البحرين عبد الله محرقي ومن قطر سلمان المالك ومن عُمان بدرية الرحبي ومن اليمن عباس عبد الله ومن الكويت عبد العزيز آرتي ومن الإمارات حيدر محمد. ومن سورية سمير كحالة، وعبد اللطيف المارديني، وعلي فرزات، وعصام حسن، ويوسف عبدلكي، وعبد الهادي الشماع، وفارس قره بيت، وحميد قاروط، وعبد الله بصمجي، وحسن إدلبي، وياسين الخليل، ورائد خليل.
محمود شاهين
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث