الثقب الأسود
 
 
 
الثقب الأسود black hole هو جسم فضائي يمتاز بجذب تثاقلي قوي له من الشدة ما يمنع الجسيمات الموجودة فيه من مغادرته. وهو قادر على جذب كل شيء يمر بجواره؛ حتى فوتونات الضوء لا تستطيع الإفلات منه. لذا لا ينبع منه أي ضوء ويبدو أسود اللون. ولهذا السبب أُطلق عليه اسم الثقب الأسود.
 
الثقب الأسود بوصفه نتيجة للنسبية العامة
 
إن العالم الرياضي والفلكي الفرنسي لابلاس (1749-1827) Laplace، الذي كان يرى أن الضوء مكوّن من جسيمات دقيقة تخضع لقوانين الجاذبية النيوتنية، هو أول من تنبأ بوجود نجوم مظلمة - ومن ثم غير مرئية - لأن حقلها التثاقلي القوي يمنع أشعتها الضوئية من الإفلات منها. وتجدر الإشارة إلى أن فلكياً بريطانياً هو جون ميتشل John Mitchell قدم فرضية مماثلة في وقت سابق عام 1783 ولكن بمعزل عن لابلاس، إلا أن هذه الفرضية سرعان ما طواها النسيان بعد ظهور النظرية الموجية للضوء التي واصل الفيزيائيون تطويرها طوال القرن التاسع عشر.
 
لكن الأمر تغيّر جذرياً في بداية القرن العشرين بعد أن وضع أينشتاين نظرية النسبية العامة، التي خلّفت ثورة عارمة ليس في ميداني الفيزياء والفلك فحسب، بل في نظرة الإنسان إلى الكون أيضاً. واستناداً إلى هذه النظرية، أثبت الفلكي الألماني كارل شفارتز شايْلد (1873-1916) Karl Schwarzchild عام 1916 أن لكل جسم مادي كروي نصف قطر حرج ر0 (يسمى نصف قطر شفارتزشايلد) يعطى بالدستور:
 
 [[ملف:شكل1335.png||]]
 
(حيث ثا: ثابتة الجاذبية، ك: كتلة الجسم، سر: سرعة الضوء). فلو ضُغِطَتْ مادة هذا الجسم إلى كرة نصف قطرها ر0 أو أقل، فإن جميع جزيئاته، وحتى أمواجه الكهرطيسية، لا يمكنها إذ ذاك مغادرة هذه الكرة. وفي حال الشمس (التي نصف قطرها 700 ألف كيلو متر) فإنَّ  ر0=3 كيلو مترات. وهذا يعني أنه لو ضُغِطَتْ مادة الشمس في كرة نصف قطرها 3 كيلو مترات أو أقل، فإن الضوء يتوقف عن الصدور عنها وتتحول إلى ثقب أسود. وفي حال الأرض فإن ر0= 0.87 سنتيمتر. لكن الفيزيائيين، حتى أينشتاين، شككوا في وجود كتل مادية في الفضاء أنصاف أقطارها قريبة من أنصاف الأقطار الحرجة لها. بَيْد أنّ البحوث اللاحقة أثبتت إمكان وجود مثل هذه الكتل في الفضاء على هيئة نجوم نترونية.
 
وفي عام 1963 وجد العالم النيوزيلندي روي كير Roy Kerr حلاًّ لمعادلات أينشتاين يبين إمكان حدوث ثقب أسود على هيئة كرة مفلطحة تدور حول محورها التناظري. وكان هذا الكشف حافزاً قوياً إلى إجراء بحوث مستفيضة في الثقوب السوداء؛ وقد كثرت هذه البحوث في نهاية العقد السابع من القرن العشرين عندما رصد الفلكيون نجوماً نترونية موجودة فعلاً في الفضاء.
 
الثقب الأسود والانهيار التثاقلي
 
النجوم كالبشر، تولد وتشيخ وتموت. فأضخم النجوم تعيش آماداً قصيرة وتقضي نحبها في انفجارات متوهجة لمستعمرات فائقة، خلافاً للنجوم المتوسطة الضخامة، وهي الأكثر شيوعاً بين النجوم، فإنها تموت ببطء وهدوء.
 
تنجم طاقة النجم، في الجزء الأكبر من حياته، عن تفاعلات نووية حرارية تجري داخله. وتولِّد هذه الطاقة قوة ناتجة من الضغط الغازي وضغط الإشعاع قادرة على مقاومة التثاقل الذي يسعى إلى سحب المادة نحو مركز النجم. وعند نفاد الوقود النووي النجمي يختل التوازن بين طاقة النجم وتثاقله، مما يؤدي إلى انهيار النجم باتجاه الداخل فيصبح ذا كثافة هائلة.
 
وفي المرحلة الأولى، تتحطم الذرات وتفسح في المجال لتكوّن غاز من النوى والإلكترونات. لكن هذه الإلكترونات تقاوم اقتراب بعضها من بعض، وتنجح هذه المقاومة في الوقوف في وجه التقلص إذا لم تتجاوز كتلة النجم قيمةً حديّةً (وجدها الفلكي شاندراسيكار Chandrasekhar المولود عام 1910) تساوي 1.4 كتلة شمسية. ويطلق على مثل هذه النجوم اسم «الأقزام البيض».
 
بين الفيزيائي الأمريكي أوبنهايمر (1904-1967) Oppenheimer  أن النجم إذا تجاوزت كتلته حد شاندراسيكار، فلا بد أن يواصل تقلصه إلى أن يبلغ مرحلة متقدمة. وهنا يجب التمييز بين حالتين: فإذا لم تتعدَّ كتلة النجم قيمة حدية تساوي ثلاثة أو أربعة أمثال الكتلة الشمسية، فإن التقلص يتوقف حين تمتزج الإلكترونات ببروتونات النوى لتوليد غاز من النترونات. وعندها يصير النجم الأصلي نجماً نترونياً (قطره يساوي بضع عشرات من الكيلومترات على الأكثر، لكن كثافته تصل إلى 100 مليون طن في السنتيمتر المكعب). أما إذا كانت كتلة النجم أكبر من القيمة الحدية السابقة، فليس من قوة يمكنها وقف التقلص، وحينئذ يحدث ثقب أسود.
 
كانت هذه النظرية في تطور الأجرام السماوية التي صيغت عام 1939 مثاراً للجدل ردحاً طويلاً من الزمن، إلى أن حل عام 1967 الذي كشفت فيه النجوم النبّاضة pulsars، وهي نجوم نترونية. ومنذ ذلك الحين انطلق سيل من البحوث النظرية والرصدية عن الثقوب السوداء.
 
أماكن وجود الثقوب السوداء والتقنيات الحديثة لكشفها
 
كانت الثقوب السوداء، كما ذكر آنفاً، تعدُّ في غرائب نظرية النسبية، إذ كان يظن أنه من غير المحتمل وجودها في الكون. وفي أوائل السبعينيات من القرن العشرين، كشف الفلكيون عدداً من النجوم، أشهرها سيغنوس Cygnus XI، تدور حول أجسام خفية. وبعد سنوات من البحث عن تفسير ذلك، توصل الفلكيون إلى أن هذه الأجسام غير المنظورة هي، قَطْعَاً، ثقوب سوداء. وفي أواخر الثمانينيات من القرن العشرين ذكر باحثون أن ثقوباً سوداء كتلها أكبر من الكتلة الشمسية ملايين المرات، تؤلف محاور أقرب جارتين لمجرتنا: المجرة الحلزونية الضخمة «المرأة المسلسلة» Andromeda، وشريكتها الإهليلجية الصغيرة M32 التي تقع على بعد مليوني سنة ضوئية من الأرض. وثمة تقارير تؤكد أن مجرَّتنا تحوي ثقباً أسود مركزياً. وحامت الشكوك حول كون مجرات أخرى تحوي ثقوباً سوداء ضخمة. ففي السبعينيات من القرن العشرين أكّد باحثون أن المجرة الإهليلجية الضخمة M87 تحوي ثقباً أسود.
 
إن المقاريب الضوئية المقامة على الأرض، بدءاً من عدسة غاليليو المقربة البدائية إلى مقراب كيك Keck الحديث جدّاً، كانت، وما تزال، تعاني جوَّ الأرض غير المستقر الذي يشوِّه الصور الواردة إليها.
 
أما مِقراب هابل الفضائي Hubble Space Telescope، الذي يمتاز بارتفاعه عن سطح الأرض 610 كيلومترات، فإنه صُمِّم لرصد الكون بصفاء ووضوح لم يسبق لهما مثيل. وقد غادر هذا المقراب الفضائي حجيرته في المكوك ديسكافري Discouvery في شهر نيسان عام 1990.
 
كان السؤال الأول الذي أجاب عنه مقراب هابل هذا هو: هل ثمة ثقب أسود في الحشد النجمي الكروي الكثيف M15 الذي يبعد عنا 42000 سنة ضوئية ويقع في كوكبة بيغاسوس Pegasus؟ فقد كان يؤكد كثير من الفلكيين أن التركيز الهائل للنجوم في هذا الحشد لا بد أن يولد ثقباً أسود فيه. لكن معطيات المقراب أوحت بقوةٍ  بعدم وجود مثل هذا الثقب. ويأتي هذا الكشف فرجاً لأولئك الفلكيين الذين كان يقلقهم الميل العام لافتراض وجود ثقب أسود غير مرئي بغية تفسير كل مصدر قوي في الكون.
 
كذلك فقد وفر مقراب هابل الفضائي برهاناً إضافياً على تأكيدات الفلكيين، في السبعينيات من القرن العشرين، أن المجرة الإهليلجية الضخمة M87 تحوي ثقباً أسود. ويقوم مقراب هابل بتنفيذ دراسات ستحسن معرفتنا بالمجرات النشيطة، ومن شأن هذه الدراسات تقرير ما إذا كان من الممكن للثقوب السوداء أن تكون السبب في نتاجها الضخم من الطاقة، أو إذا كان لزاماً على الفلكيين تقديم تفسيرات قد تكون أكثر غرابة لهذه المحطات السماوية المولدة للطاقة.
 
ويستعد الفيزيائيون اليوم لبناء مقراب غير عادي قد يسمح لهم في نهاية المطاف برصد الكثير من الظاهرات الكونية المعقدة، ولاسيما الثقوب السوداء. هذا المقراب، خلافاً لأي مقراب آخر، غير حساس للإشعاعات الكهرطيسية، مثل الضوء، والأمواج الراديوية وأشعة غاما. إنه، بدلاً من ذلك، مصمم للكشف عن الأمواج التثاقلية graivitational waves والتغيرات الصغيرة في شكل الفضاء التي تمثل اختباراً لأفكار أينشتاين الدقيقة والمعقدة ونظريته في النسبية العامة.
 
وفي عام 1991 وقّعت الحكومة الأمريكية على مشروع قانون لإقامة مرصد لكشف الأمواج التثاقلية يسمى «مرصد مقياس التداخل الليزري للأمواج التثاقلية» Laser Interferometer Gravitational -Wave Observatory (الذي يرمز له اختصاراً باسم «ليغو» LIGO). إن كشف الباحثين للأمواج التثاقلية بدلاً من الإشعاع الكهرطيسي يجب أن يجعلهم قادرين على تقصّي كلٍّ من الأجسام الساطعة، كالنجوم المتفجرة، والأجسام المظلمة، كالثقوب السوداء.
 
وتتصدر قائمة مهام مشروع «ليغو» دراسة الثقوب السوداء وثنائيات الثقوب السوداء المحتمل وجودها، واندماج هذه الثنائيات. ويعتقد القائمون على المشروع بأنهم قد يشهدون، لأول مرة، كيف يبدو الثقب الأسود.
 
تجدر الإشارة إلى أن ثمة قلة من العلماء لا يأخذون بنظرية تكوّن الثقوب السوداء وعلى رأسهم الأكاديمي أناتولي لوجونوف Anatoli Logunov، وهم يرون أن الإيمان الأعمى ببعض النظريات العلمية، حتى ولو كان أصحابها علماء أفذاذاً من أمثال أينشتاين، قد يلحق الأذى بالمسار الصحيح للعلم أكثر مما يدعمه. وهم يقدمون أفكاراً جديدة يمكن أن تكون قد سقطت من حساب أينشتاين عن الظاهرات الكونية، ومن ثم تصلح نواة لنظرية جديدة.
 
كذلك، فإن عدد العلماء الذين لا يؤمنون إيماناً راسخاً بنظرية الانفجار الأعظم بات كبيراً، فهذه النظرية تستند إلى كثير من الفرضيات التي لم يجر اختبارها، والتي لا يمكن اختبارها في كثير من الحالات. ويرى بعض الباحثين أن نظرية الانفجار الأعظم ونظرية الثقوب السوداء أضحتا مترسختين بعمق في الفكر المعاصر لأنهما تعكسان بحث الإنسان عن خلق الكون وعن تطوره، وأن هذا البحث يقع في جوهره في مجال الميتافيزيقة (ما وراء الطبيعة)، وليس في ميدان العلم.

خضر الأحمد
 
 

المراجع

الموسوعة العربية

التصانيف

الأبحاث