في القرون الثلاثة التي شكلت العصور الوسطى، كان الفن في شمالي أوربا مختلفاً عن فنون النهضة الإيطالية، ونظر الإيطاليون في القرن الخامس عشر إلى هذا الفن على أنه فن البربر.
 
وفي القرن التاسع عشر، نشطت الدراسات التاريخية التي تناولت الفن القوطي L’art gothique، ومن أهمها دراسات لابارت Labarte ورامه Ramée ورفوال Révoil. واتفقوا على أن الفن الأوربي في العصور الوسطى تمثَّل باتجاهين، اتجاه الفن الرومي Roman والفن القوطي gothique.
 
وبدراسات متأنية لهذين الفنين، تأكد للباحثين أنهما يشكلان مرحلتين متتاليتين، وأن الفن القوطي هو المرحلة الناضجة والزاهرة للفن الرومي الذي أطلق عليه اسم الفن القوطي البدائي، تمَّ هذا التلاحم والتعاقب في مجال العمارة والنحت والتصوير والفنون التطبيقية. وانتشر هذا الفن في غربي أوربا ولاسيما في فرنسا، والذي لا ينتمي إلى القوط والجرمن، ولا ينتمي إلى الثقافة اللاتينية.
 
في القرون الوسطى كانت سلطة البابا قد وصلت إلى ذروتها، وظهرت كنائس الفرانسيسكان والدومينيكان، كما ظهرت تكتلات الصليبيين العسكرية، ثم اعترى نفوذ البابا بعض الهبوط وظهرت النزعات الوطنية، بعد أن تطورت البرجوازية في القرن الثالث عشر وقوي مركز المدينة، إذ تحلّق السكان حول كهنة الكاتدرائيات وكان لهذه الطبقة النفوذ المالي والاقتصادي. وكان للفرسان بدفع البابا دور في الحروب الصليبية في الشرق.
 
العمارة القوطية
 
تمثال نصفي لشارلمان، من الفضة المذهبة
 
 والنقش العاجي (نحو1350)
 
 
تتميز العمارة القوطية بخصائص معمارية وجمالية مستقلة، أولها الاهتمام بالخطوط المستقيمة ولاسيما الخطوط الشاقولية المتوازية، والتي ربطت عناصر البناء ومفرداته المعمارية مع بعضها، كما امتاز بتطوير أبراج الأجراس من سابقتها في الفن الرومي، والتركيز على استخدام التماثيل الشخصية لتغطية الواجهات، واستغلال الصور الزجاجية الملونة التي تشكل النوافذ والزهريات الدائرية rosacée، لاستقبال النور الخارجي لإضاءة المنشآت القوطية، وأكثرها كانت كاتدرائيات ضخمة أشهرها كاتدرائية نوتردام ـ باريس.
 
يقوم مخطط الكاتدرائية على مبدأ الأروقة، الرواق الأوسط الكبير والأروقة الجانبية. وتبدأ هذه الأروقة عند الباب الخارجي الضخم الذي يعقبه رواق، وتنتهي عند المذبح على امتداد رواق آخر.
 
ويغطي هذه الأروقة قبوات متقاطعة voûte d’arêtes يصل ارتفاعها إلى ثمانية وأربعين متراً مرتكزاً على أعمدة، تتصل في وسطها بالمنصة tribune التي تعلو الرواقين الجانبيين وعلى امتدادهما، وهذه الأعمدة ملساء مستقلة، أو مدعومة وتنتهي بأقواس هي عروق القبوة المتقاطعة.
 
ويتألف مدخل الكاتدرائية من رواق portique هو مظلة تتموضع منها أقواس متتالية ومتوالية بالصغر، حتى تصبح إطاراً ومظلة للمدخل المؤلف من ثلاثة أبواب.
 
وتزين هذه الأقواس تماثيل واقعية للقديسين أو زخارف غير تشخيصية. وفي أعلى الباب المتوسط نافذة دائرية تسمى الزهرية، مؤلفة من لوحة من الزجاج المعشق vitrail، وفوق هذه الزهرية برجان جانبيان وهو السائد في الكاتدرائيات. وهذه الأبراج ذات الفتحات الطولانية، هي أبراج أجراس الكنائس.
 
تنفتح نوافذ طولانية على جانبي بناء الكاتدرائية، مزودة بلوحات من الزجاج المعشق الملوّن، وتتموضع هذه النوافذ بين المحاور والمساند المعمارية المزخرفة.
 
والطابع العام لعمارة الكاتدرائيات طابع امتشاقي، يتمثّل بالأقنية والأعمدة والتماثيل، والتي تنتهي بأبراج أو جبهات مثلثية حادة.
 
كاتدرائية أميان من الداخل 
 
 
وفي باريس حيث جزيرة فرنسا L’Ile de France وفي ضواحيها، ظهرت أبرز الكاتدرائيات القوطية، كاتدرائية نوتردام Notre-Dame وكاتدرائيات شارتر Chartres، ولاون Laon، وباريس، وأميان Amiens، وريمز Reims. وانتقل طراز هذه الكاتدرائيات إلى جنوبي فرنسا، وإلى ما وراء جبال البيرينه، وإلى ما وراء بحر المانش ونهر الرين، في مدن بورغوس Burgos وليون Leon و كانتربري Canterbury وويستمنستر Westminster وكولونيا Cologne وبامبيرغ Bamberg.
 
على أن الطراز القوطي في الشمال ليس شبيهاً لنظيره في الجنوب، إلا أن تعددية الطراز في عمارة الكاتدرائيات القوطية ليست بمستوى التعددية في الطراز الرومي.
 
لابدّ من الإشارة إلى أن تطور العمارة القوطية باتجاه التوازن والكمال قد تم بسرعة، وقبل أن تتجلى معالم عصر النهضة، كان الفن القوطي قد بلغ مرحلة الباروك، عندما طغت الزخارف اللهيبية على مفردات العمارة وقد بلغ هذا الفن مداه في هذا الأسلوب منذ أواخر القرن الرابع عشر وفي القرن الخامس عشر، وأطلق عليه الأسلوب اللهيبي flamboyant نسبة إلى لهيب النار، والذي تمثَّل بزخارف نحتية ملتوية تختلط بالتماثيل. وهذه الزخارف تزين النوافذ والمشبكات على شكلين، شكل يسمى المنفاخ soufflet وشكل يسمى المقص mouchette. وغالباً ما يحوي هذا الأسلوب القوس الضامة arc en accolade وأهم أمثلة هذا الأسلوب يُرى في كاتدرائية روان Rouen في فرنسا.
 
ولم تكن العمارة القوطية مقتصرة على الكاتدرائيات، بل امتدت لجميع أشكال العمارة، وأهمها القصور الملكية أو قصور العدل وبعض التحصينات، ومثالها قصر البلدية في مدينة بورغ Bourg وقصر البلدية في إيبر Ypres.
 
واكتسب الفن القوطي في إنكلترا أشكالاً متنوعة، ولكنها لا تخرج عن الخصائص العامة لهذا الفن، ففي كاتدرائية سالزبوري (1220) Salisbury  ثمة اختلاف واضح في واجهة هذه الكاتدرائية. وفي كاتدرائية ويلز Wales تُرى الحنيات المقولبة غليظة. أما في كنائس اكستر Exter وكانتربري، فإن القباب فيها تأخذ شكلاً مروحياً.
 
ومن أشهر الكاتدرائيات القوطية في إيطاليا كنيسة دومو ميلانو، وقد ابتدئ بعمارتها في العام 1836 وانتهت في العام 1856، وهي من الرخام مغطاة بأكثر من أربعة آلاف تمثال رخامي، وهي بذلك تعدُّ أروع أنموذج للعمارة القوطية.
 
وفي البندقية، مازال قصر الدوكال Ducal أي قصر دوق المدينة من أكمل المنشآت القوطية، ويعود إلى القرن الثامن.
 
ومن أعظم أمثلة العمارة القوطية في إسبانيا، كاتدرائية إشبيليا (1043). وفي قبرص مازالت كاتدرائية القديس نيقولا (1300) ومستشفى رودوس (ق 15) من آثار العمارة القوطية الناضجة.
 
 وفي سورية، تُرى بعض معالم الفن القوطي واضحة في قلعة الحصن Crac des Chevaliers، والتي أنشئت في بداية القرن الثاني عشر وكانت قد صممت على أساس حربي دفاعي من قبل فرسان الاستبالية، وهي من أكمل القلاع. ويبدو الطابع القوطي واضحاً حتى اليوم في المنشآت التي تحيط الفناء الأول، حيث يُرى بناءٌ تطل منه خمس نوافذ قوطية وباب على شكل قوس مدببة يؤدي إلى الصالة الكبرى الرائعة، وأبعادها 27×7.5م، مؤلفة من ثلاث معازب عقدية ترتكز على تقاطع عقود قوطية تزينها زخارف نباتية.
 
وثمة كنيسة قوطية تنفتح على الفناء، وعلى مستوى الكنيسة يصل رواق كبير بطول 120 متراً، وهو بناء رائع يهبط عقد قبته المكسور حتى الأرض، وتوزع فتحات منتظمة في القبة النور إلى الداخل. وثمة صالة أخرى غريبة بأحجامها وهندستها هي صالة الدعامات الكبيرة.
 
وفي قلعة حلب، لابدّ من التنويه بمدخل القلعة المؤلف من أبراج محمولة على قناطر وعضادات هي نموذج للطراز القوطي.
 
النحت القوطي
 
«فارس بامبرغ» نحت في كاتدرائية بامبرغ
 
 (نحو1235)
 
 
كما هي العمارة القوطية امتداد ناضج للعمارة الرومية كذلك شأن النحت. ويتضح التقارب بين أسلوبي النحت في تماثيل المدخل الملكي لكاتدرائية شارتر. ثم يتطور النحت القوطي نحو أسلوب أقرب إلى الواقع الصوفي، إلى أن يصبح في كاتدرائية ريمز أكثر حيوية وعاطفية، ولاسيما في تماثيل الملاك الباسم، ويوحنا المعمدان، والمسيح والقديس يوسف.
 
وتغدو أعمال نحت التماثيل في كاتدرائية أميان أعمالاً فنية مجردة من الوظيفة الدينية أو الزخرفية، وتحمل الطابع الواقعي المعتمد على القواعد الكلاسية كمقدمة لفن عصر النهضة.
 
حتى إن التماثيل النسائية في كاتدرائية ستراسبورغ كتماثيل العذراء الحكيمة والفاضلة وغيرها، تبدو متطرفة في مقاساتها الطبيعية لتكون مقدمة للنحت التكلفي maniériste؛ فهي أكثر امتشاقاً ورشاقة وغرابة.
 
ولم يلبث النحت أن استقل عن العمارة لكي يبدو في تماثيل حرة، ومثالها تمثال القديس لويس. وظهرت أسماء نحاتين استقلوا عن المعماريين، من أمثال نيقولا بيزانو (1220ـ1284) Pisano وابنه جيوفاني Giovanni وميتاني (1275ـ1330) Maitani ودي كامبيو (1239ـ1300)  Cambio وأُركانيا (1343ـ 1368) Orcania.
 
ولم يقتصر النحت القوطي على تمثيل أشخاص بذاتها حتى وإن كان الموضوع تاريخياً دينياً مثل تمثال «العذراء والطفل» للنحات نينو بيزانو N.Pisano، بل تجاوز ذلك إلى تمثيل مشاهد كاملة من النحت البارز، مثل ولادة يوحنا المعمدان (1312) لجيوفاني بيسانو في كاتدرائية بيزا، ومشهد «غفوة العذراء» (1230) في بوابة كاتدرائية ستراسبورغ. وهكذا مر النحت القوطي بمرحلة انتقال إلى عصر النهضة، فغدت تمثل أشهُر السنة رمزياً ولكن بأسلوب واقعي كما في تماثيل كنيسة فيراري Ferrare (إيطاليا)، أو في كاتدرائية (أميان ـ فرنسا)، أو في كاتدرائية نوتردام في باريس.
 
ويجب الإشارة إلى أن التماثيل إذ تقوم مقام الأعمدة في عتبة الكنيسة، ولكن هذه الوظيفة لم تمنع أن يستعيد التمثال خاصيته، كما في شارتر، حيث نجد القديسين المنتصبين في الفجوات قد استرجعوا ملامحهم الحياتية. وفي نهاية العصر يكاد يرى أشخاص حقيقيون يتبادلون الحديث ويتحركون كما هم في الحياة العادية.
 
التصوير القوطي
 
«عبادة المجوس» للفنان جانتيل دافابريانو (1423) 
 
 
يتمظهر التصوير القوطي بأشكال ثلاثة، فإما أن يكون تصويراً زجاجياً ملوناً، معشقاً بقضبان الرصاص، موزعاً في جميع النوافذ والزهريات ويمثل أحداثاً دينية، ومن أجمل أمثلة هذا التصوير صورة العذراء في نافذة مذبح كاتدرائية شارتر. ويستعمل في هذه الصور الزجاج المقطع بألوان مختلفة أهمها، الأزرق الكوبالت والأحمر الفاقع والأخضر الحي، وتبدو هذه الصور أكثر حيوية وإشعاعاً عندما ينفذ ضوء الشمس من خلال الزجاج.
 
ولعل الصور الزجاجية في كنيسة سانت شابيل في فرنسا، والمخصصة للعائلة المالكة، هي من أضخم الألواح الزجاجية، وتمتد على 146نافذة وتمثل 1359موضوعاً.
 
وقد ابتدأت تقنية هذه الزجاجيات أشبه ما تكون بالفسيفساء الزجاجي، ثم قطعت ألواح الزجاج قصاصات حسب حاجة الصورة، تربطها قضبان مقعرة قصديرية. ثم تطورت هذه التقنية لتصبح قصاصات الزجاج كبيرة. ومن المؤسف أن هذا النوع من التصوير قد تعرض إلى ترميمات متتابعة أفقدته أصالته أحياناً.
 
والنوع الثاني من التصوير هو الترقين enluminure، وهو تصوير إيضاحي في المخطوطات بأسلوب واقعي محّور ورمزي، مطور عن التصوير الرومي، ويمتاز بحواشيه التي تمثل العمارة القوطية. 
 
ومن أشهر المصورين جان فوكيه (1420ـ1480) Fouquet، وكانت مدينة تور Tours من أبرز مراكز إنتاج هذا النوع من التصوير.
 
وفي إنكلترا تأثر الترقين بالأسلوب الفرنسي أولاً، ثم لم يلبث أن استقل عنه متبعاً طريقة أكثر تعبيرية، وبموضوعات ريفية تبنته كلية ترينتي Trinity.
 
والنوع الثالث من التصوير الفريسك fresques، وهو تصوير جداري بألوان مائية وبأسلوب يحاكي أسلوب المرقنات. وفي كاتدرائية كانتربري ألواح من الفريسك الجيد، وكذلك يحفل قصر ويستمنستر Westminster في زمن هنري الثالث بصور تمثله.
 
على أن هذه التقنية الهشة لم تترك في فرنسا وإنكلترا إلا القليل من الصور الأصلية. وظهرت إلى جانب الصور الجدارية صور مستقلة أنجزت بالتقنية ذاتها، كما ظهرت صور على الرق.
 
الفنون التطبيقية
 
امتد الفن القوطي إلى الأشياء الاستعمالية، فنراه في صناعة البسط tapisserie وصورهاالواقعية ذات الموضوعات الدينية وغيرها. وفي متحف الفنون الزخرفية ومتحف كلوني في باريس مجموعة من البسط، منها بساط يمثل الاستحمام مع الموسيقى.
 
وكانت مدينة تور Tours قد اشتهرت بصناعة البسط، كما ظهرت تقنية الغوبلان gobelins وكانت العناصر الزخرفية المحيطة مؤلفة من تشكيلات هندسية كالصليب الإغريقي المعقوف واللولبيات والزوايا المتتابعة، مع استغلال العناصر النباتية، مما يعلن عن ميل لتمثيل الطبيعة في القرن الخامس عشر.
 
كان الفن القوطي عامة، فناً مسيحياً خضع لتأثير القديس برنارد Bernard والقديس فرانسوا François. وكان عليه بذلك أن يتضمن الموضوعات الدينية والصور الرمزية التي تمثل العواطف الداخلية، أي تمثل مواقف الأشخاص وانفعالاتهم وتعابير وجوههم، مع المبالغة أحياناً ولاسيما في ألمانيا في الموضوعات التي تمثل الموت والأساطير.
 
كان الفن القوطي جسراً لفن عصر النهضة، بدا ذلك في نهاية القرون الوسطى، إذ صارت الموضوعات أكثر ارتباطاً بالحياة اليومية. وتمثل عمارة قصر سينيوري Seigneurie في فلورنسا (1298) حلقة الاتصال بعصر النهضة، إذ بدت حميّة الإيمان والمحبة بالتضاؤل فاسحة في المجال إلى إصلاح ديني، بل إلى العودة إلى التراث الروماني.
 
على أن الأسلوب المجامل le style courtois والذي انتشر في أنحاء أوربا، كان آخر مظاهر التمسك بتقاليد الفن القوطي.
 
عفيف البهنسي
 

المراجع

الموسوعة العربية

التصانيف

الأبحاث