المساجد (عمارة ـ)
 
 
 
ليس من مصدر ديني يتحدث في عمارة المساجد وشروطها، بل إن مسجد الرسولr في المدينة وضع القواعد الأولى لهذه العمارة التي استمرت أساساً، تبعها كثير من التعديل والتطوير المعماري، مما يتناسب مع تطور العمارة الإسلامية وتطور عمارة المدن الإسلامية، ويلبي الحاجة المتزايدة لبيوت الله، كيما تستوعب المصلين في عصور التضخم الديموغرافي الذي وصل ذروته في العصر الحديث.
الفسيفساء في الجامع الأموي بدمشق
 
يرى الإسلام أن أي مكان يصلي فيه المؤمن هو مسجد وهكذا كان مسجد قباء في المدينة المنورة، إلا أنه في العام الأول للهجرة من مكة إلى المدينة أنشأ الرسولr في المدينة أول مسجد للإسلام على مساحة لا تتجاوز 70×63 ذراعاً في البداية، قسمت إلى قسمين، قسم محمول على جذوع النخيل في جهتي الساحة ومسقوف بعريش من الخشب وسعف وغصون، وقسم في الوسط مفتوح إلى السماء. ثم وُسِّع المسجد أيام الرسولr وأضيف إليه عشرة أذرع عرضاً، وعشرون ذراعاً طولاً. وكانت جذوع النخل تحمل العريشين في صفين، ثم زيدت وأصبحت ثلاثة صفوف، وصارت المساحة الكلية 5670 ذراعاً أي 3480.86 متراً، وكان للمسجد ثلاثة أبواب. وفي الركن الجنوبي الشرقي لصحن المسجد ابتنى الرسولr حجراته التي عاش فيها مع زوجاته.
 
زاد الخليفة عمرt في بناء المسجد، ثم غيّره الخليفة عثمانt وبنى جداره بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج، وصار طول المسجد 160×150 ذراعاً وأبوابه ستة.
 
ثم زاد فيه الوليد بن عبد الملك فجعل أبعاده 200×180 - 200 ذراع، وكان هذا المسجد شبيهاً بمسجد دمشق، ولقد أسهم في عمارته معماريون من الشام ومصر، ثم أعاد بناءه وزاد فيه الخليفة المهدي العباسي سنة 160هـ/ 778م.
 
وبعد احتراق المسجد أعاد الملك الظاهر بيبرس إنشاءه على هيئته السابقة، حتى أعيد بناؤه حديثاً في عهد الملك عبد العزيز بن سعود وأولاده من بعده.
 
وأخذت مساجد الألفية الأولى عن مسجد الرسولr أسسها المعمارية مع تضخيم ملحوظ، وأشهر هذه المساجد، مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط (21هـ/642م)، ومسجد عقبة بن نافع في القيروان (55هـ/675م)، وجدده الأغالبة (836- 862).
 
العناصر الأساسية لعمارة المسجد
 
القسم الأول: الحرم أو بيت الصلاة، وهو الجزء المسقوف محمولاً على أقواس وأعمدة، ويشكل ما يقرب من نصف بناء المسجد.
 
والقسم الثاني في المسجد هو الصحن المكشوف، مخصص للصلاة أيام الصيف. وثمة مساجد تقتصر على الصحن فقط وتسمى (المصلى) أو مصلى العيدين، ثم ظهرت مساجد مؤلفة من الحرم فقط، كان أولها المسجد الأقصى في القدس.
 
يتجه المصلون في المسجد نحو الكعبة المشرفة بسمت القبلة، وكانت علامتها أيام الرسولr مجرد حجرين، ثم أصبحت محراباً ظهر أول مرة في دمشق بعد أن فتحها المسلمون وصلى الصحابة في زاوية من أنقاض المعبد القديم. وكانت القبلة تتجه أولاً نحو بيت المقدس ثم اتجهت نحو الكعبة الشريفة في مسجد القبلتين، والتي أصبحت رمزاً للجماعة الإسلامية، وليست تعييناً لمكان المعبود، فالله تعالى لا يحده مكان ولا جهة.
 
أما المنبر فهو مرتفع مدرج في المسجد ولاسيما في الحرم، ولقد ابتدأ في عصر الرسولr على شكل جذع شجرة، ثم نصحه تميم الداري الشامي «ألا اتخذ لك منبراً يجمع أو يحمل عظامك، قال نعم، فاتخذ له منبراً من مرقاتين». ومن أولى المنابر الخشبية الضخمة المزخرفة منبر مسجد القيروان، ومازال قائماً حتى اليوم.
 
قبة ذات عروق تغطي المحراب الثاني لجامع قرطبة الكبير
 
وثمة عناصر أخرى أصبحت أساسية في تكوين عمارة المساجد هي المئذنة والقبة، مع إضافة الميضأة والمقاصير المخصصة للحاكم حماية له. ثم ظهرت المدارس والمدافن ملحقة بالمسجد.
 
لم تقف عمارة المساجد عند الحدود الأولى، بل ظهرت في طرز متعددة تختلف باختلاف الأقاليم الإسلامية، وباختلاف العهود السياسية في المشرق والمغرب، إذ دخلت عناصر معمارية متأثرة بأصول محلية أو مذهبية. وقد دفع اختلاط العاملين الجغرافي والسياسي إلى تصنيف طراز عمارة المساجد على الوجه الآتي:
 
الطراز الأموي في بلاد الشام ومثاله جامع قبة الصخرة، والمسجد الأقصى، والمسجد الأموي في دمشق. ويبقى مسجد قبة الصخرة الذي أنشأه عبد الملك بن مروان سنة 680م رائعة العمارة الإسلامية الأولى، فهو بناء ذو مسقط ثماني تعلوه قبة تحمي الصخرة المقدسة. وعلى سفح الحرم القدسي الشريف أنشأ أيضاً المسجد الأقصى الذي أكمله ابنه الوليد وأعيد بناؤه في العصر العباسي بعد تهدمه. والمسجد الأقصى حرم مغطى، وأما صحنه فهو مشترك مع منشآت دينية أخرى أنشئت في عهود تالية في الحرم القدسي الشريف.
 
ومسجد دمشق[ر. الأموي (المسجد -)] أنشئ في عهد الوليد بن عبد الملك على أرض كانت معبداً رومانياً مهدماً، واستُعملت عناصر هذا المعبد المعمارية في بنائه، ويمتاز بصحن واسع محاط بأروقة محمولة على أعمدة ويعلو الحرمَ قبة، وللمسجد حالياً ثلاث مآذن وأربعة أبواب.
 
وبدا الطراز العباسي متأثراً بأسلوب العمارة الفارسية، ولم يبقَ من مسجد بغداد أو مسجد واسط أثر يذكر، وفي سامراء مسجد ضخم ذو مئذنة لولبية (الملوية) وكذلك مئذنة جامع أبي دلف.
 
ويتميز الطراز الفاطمي بوفرة المساجد الموجودة في القاهرة المعزّية، مثل جامع الأزهر وجامع الحاكم، وجامع الأقمر، ويتميز هذا الطراز بقبابه المزخرفة بعناصر هندسية أو نباتية.
 
انتشر الطراز السلجوقي في العراق وتركيا. ومثاله مسجد السلطان في بغداد، ومسجد نور الدين في الموصل، وفي تركيا مسجدا سيواس وقونيا ومسجد أولوجامعي.
 
أما الطراز الإيراني المغولي فيتجه نحو الضخامة والجدران العالية والبوابات السامقة، ومثاله مسجد جوهر شاد في مشهد (821هـ/1418م)، والمسجد الأزرق في تبريز (870هـ/1465م)، ومسجد الشاه في مشهد (855هـ/1451م).
 
ويتميز الطراز المملوكي في مصر والشام برشاقته وجمال مآذنه المزخرفة، ومن أقدم المساجد المملوكية مسجد الظاهر بيبرس (659- 676هـ/1260-1277م) في القاهرة. واندمجت في جامع السلطان حسن (757-764هـ/1356-1362م) المدرسة مع المسجد، وهو من أجمل العمارات المملوكية بواجهته العالية المزخرفة.
 
بدأ الطراز المغربي الأندلسي بعمارة جامع قرطبة الذي توسع مرات ثلاث. ويمتاز بأقواسه المفصصة وبالمئذنة المرتفعة وكانت تقليداً للمئذنة السورية، وتُرى واضحة في مئذنة مسجد حسان في الرباط، ومئذنة مسجد الكتبية في مراكش، ومئذنة جامع إشبيليا (الجيرالدا).
 
منظر جوي للجامع الكبير في أصفهان
 
وصلت عمارة المساجد في إيران إلى قمة ازدهارها في عهد الشاه عباس في أصفهان، حيث أنشئ جامع الشاه الذي يمتاز بالفخامة واستغلال البلاطات الخزفية والمقرنصات. وفي أردبيل جامع الشيخ صفي الدين.
 
وظهر في الهند الطراز المغولي حيث المساجد المؤلفة من طبقات أحياناً، وقد تعددت فيها المصليات. وفي بيت الصلاة الرئيس يأخذ المحراب هيئة ضخمة مزخرفة، وتعددت طرز عمارة المساجد في الهند بحسب المناطق. ويبقى مسجد بيشاور مثالاً على الطراز المعماري الهندي.
 
ويعد الطراز التركي العثماني استمراراً للطراز السلجوقي، ولكن ظهور المعمار سنان الذي توفي عام 1588، أسس لطراز مستقل بدا في عشرات المساجد التي صممها وامتازت بقبابها المسطحة وبأنصاف القباب وبالمآذن الرمحية السامقة. وقد ضمت هذه المساجد مشافي ومدارس ومطابخ ومدافن. ومن أشهر آثار المعمار سنان، جامع السليمية في أدرنه (982هـ/1574م)، وجامع السليمانية (964هـ/1556م) في إصطنبول. وتابع تلاميذه بناء المساجد وفق أسلوبه كما في الجامع الأزرق في إصطنبول.
 
وقد تميّز الأسلوب العثماني بتعدد المآذن في المسجد الواحد، حتى بلغ عددها ست مآذن في الجامع الأزرق. وتعد المئذنة من أهم علامات المسجد وكان أول ظهورها في جامع دمشق، وهي مربعة انتشرت في القيروان وفي قرطبة، وفي كل المآذن التي أنشئت في المغرب العربي.
 
وفي الشرق ولاسيما في إيران والهند فإن المئذنة أصبحت أسطوانية تعلو جدار بوابة المسجد. كما ظهرت في العراق على شكل لولبي، وصارت في القاهرة مزدوجة الذروة كما في مئذنة الجامع الأزهر.
 
تتجلى هيبة الجامع بالاعتماد على القبة التي أخذت أشكالاً مختلفة، ولقد ُزيِّن بعضها بأعصاب بارزة، أو بتغليفها بالبلاطات الخزفية. ثم أصبحت عارية مكسوة بألواح الرصاص في العمارة العثمانية. وثمة قباب صغيرة غطت الأروقة كما في الحرم المكي. وتتميز المساجد بالحوامل الرافعة لسقف الحرم أو سقوف الأروقة، وهذه الحوامل مؤلفة من أعمدة أو من أكتاف تعتمد عليها عقود مختلفة الأشكال، نصف دائرية، أو على شكل حذوة الفرس، أو بتشكيل مفصص.
 
ولقد أعيد استعمال الأعمدة القديمة وتيجانها في بناء المساجد الأولى، ثم ظهرت أعمدة وتيجان حملت طابعاً مستقلاً عن الشكل الروماني أو البيزنطي السابق. وزينت حواف الحرم الخارجية بحاجز زخرفي من الشرافات أو عرائس السماء، أخذت تشكيلات متعددة من أبرزها شرافات الجامع الأزهر.
 
وتبعت عمارةَ المساجد عناصرُ معمارية وظيفية مثل الميضأة التي تسهل الوضوء إلى جانب المراحيض، وكانت تنشأ متطرفة في جانب من الصحن.
 
والمقصورة مصلىً صغير داخل الحرم مخصص للخلفاء أو الولاة حماية لهم، وكان معاوية أول من اتخذ المقصورة في جامع دمشق، ومن أشهر المقاصير مقصورة الجامع الكبير في قرطبة.
 
الزخارف في المسجد
 
اهتم معماريو المساجد بزينتها، وذلك بالاهتمام بالشمسيات وهي ألواح زجاجية ملونة تحددها إطارات جصية، تغطي النوافذ والفتحات التي تعلو الأبواب، إضافة إلى الكسوات الفسيفسائية التي تُرى في الجامع الأموي بدمشق، وكانت واضحة في مسجد قبة الصخرة والمسجد الأقصى، إلى جانب الألواح الخزفية التي اشتهرت إيران وتركيا بصناعتها وزخرفتها، إضافة إلى الكتابات القرآنية بالخط الجميل التي كانت تزين جدران المساجد. وإلى جانب هذه الزخارف ثمة زخارف حجرية وخشبية، ولعل منبر جامع القيروان شاهد على أقدم الزخارف الخشبية المفرغة والتي تعود إلى العصر الأموي، ومن الزخارف الملونة الرائعة ما يغطي سقف الجامع الكبير في صنعاء.
 
والزخارف النباتية أو الهندسية هي رسوم مجردة، اهتم المعمار باستثمارها في تزيين المساجد بعيداً عن الرسوم التشبيهية التي كانت مكروهة خشية الانزلاق في تصوير الخالق أو في مضاهاة الله تعالى على قدرته بالخلق والتصوير، ولقد أطلق على هذه الزخارف اسم أرابيسك Arabesque باللغات الأجنبية.
 
وفي العصر الحديث يزداد عدد المساجد بوفرة كبيرة في المدن الإسلامية، ومع أن أكثرها يحمل الطابع السائد في منطقته أي الطابع الفاطمي أو المملوكي أو المغربي أو العثماني، فإن الحداثة المعمارية تسربت إلى عمارة المساجد، مثل مسجد الملك فيصل في إسلام أباد - باكستان. إلا أن الطراز السائد هو الأكثر ارتباطاً بتقاليد عمارة المساجد مثل جامع الملك الحسن في الدار البيضاء بالمغرب، الذي يتميز بعمارة مئذنته الضخمة جداً، ومثل جامع الحرم النبوي الشريف في المدينة المنورة الذي فيه قبر الرسولr، وقد حافظ على الأسلوب المعماري الإسلامي مع كثير من الإبداع.
 
ويجب التنويه أخيراً بأن عمارة المساجد كانت حجرية دائماً، إلا ما ظهر من مساجد في إفريقيا الوسطى، والجنوبية فهي طينية أو آجرية مدعمة بالأخشاب.
 
عفيف البهنسي
 

المراجع

الموسوعة العربية

التصانيف

الأبحاث