لعلها أشد حزنا من امرأة أجهضت للتو، ولربما كانت أكثر تعبا من عامل منجم احترف شق الصخور، من المؤكد انها لم تشارك يوما في ورشات عمل حول حقوق الانسان، وقد فاتتها احتفالات تكريم كثيرة، امرأة من ضنك، ليس لها ادنى معرفة بآخر صرعات الموضة او حتى أولها!، قدمها لم تطأ قط صالون مصفف شعر، او مركزا للعناية بالبشرة، بل انها تبدو أكثر خشونة من رجال كثر.
أصادفها مرارا هذه الايام، وقد اتخذت دوّار الاتصالات في منطقة الرابية مركزا لها، تحمل أوراق الملوخية خضراء يانعة من غير سوء منقبة مقطعة، معبأة في اكياس نايلون شفافة جاهزة للاستعمال، تبيعها دون إلحاح كبير للسواقين المتوقفين قسرا عند الاشارات الضوئية، ليقينها من ضعف المقاومة الشعبية لمذاقها الشهي مضافا إليه قدحة "الثوم والكزبرة" فتفوح رائحتها بشكل يجعل من غير اليسير تجاهل سطوتها كونها حاصلة على اجماع وطني منقطع النظير.
حين اقتربت من سيارتي بخطوة متهالكة تنم عن تعب متأصل، اعترفت لها وانا انقدها الثمن، بأنني لا اتقن طهي الملوخية رغم هوس العائلة بها، قالت باستخفاف "وّل كلها نتفة ملوخية بدهاش فصاحة"، وشرعت تشرح لي خطوات طبخها.
في اثناء ذلك تأملت وجهها المتغضن الذي اكتهل قبل اوانه، غير ان ثمة أنفة وكبرياء استقرت في نظرة عينيها جعلتني ادرك انني بصدد امرأة من طراز عصي، يعرف كيف ينتزع الحياة من فك المستحيل المفترس، ليطعم صغاره لقمة العز مجبولة بعرق التعب.
تساءلت: هل تعرف هذه المرأة المثخنة بالغربة ان سيد البيت الابيض جاء بنفسه خصيصا للاحتفال بذكرى شتاتها واغترابها ولكي يهنئ سفاحه المفضل بالذكرى الستين للقبح، وليشد من أزره مشجعا على مزيد من الفتك؟ وهل حقا "بتفرق" معها لو تأكدت ان العالم الحر المنهمك في احياء ذكرى نكبتها، مايزال متمسكا بطقوس الشجب والتنديد في مثل هذا الوقت من كل عام؟ هل سيحول ذلك دون شقائها اليومي او يغير من روتين يومها الذي يبدأ مبكرا حين قيامها في مطلع الفجر موقظة عين الشمس من نومها، متجهة الى"الحسبة" لعقد افضل الصفقات الممكنة؟
تحمل تلك الاكوام من عروق الملوخية ثقيلة الوزن فوق ظهرها، سالكة درب الآلام المرة تلو الاخرى على مدى عمر من البؤس، تجمع الجارات ويقمن سويا بطقس تنظيف الملوخية وسط ثرثرات تجعل العمر يبدو اقل خذلانا وخيبة، لتنطلق بعد ذلك ساعية في مناكبها، تبيع حصيلة التعب لنساء يعتبرن نعومة ايديهن مسألة مصيرية لا تقبل المساومة، ويخشين التعرض لتقلبات الطقس التي قد تقصف ظفرا او تنزع عنه طلاء!! تعود الى بيتها في المساء فرحة بربطة الخبز تضعها ساخنة على مائدة العائلة، وهي تدرك بفطرتها انها امرأة من كبرياء وانها تعريف بليغ لفكرة المرأة حين تكون حرة لا ريب فيها!! تنام ليلها الطويل غير معنية بالصخب الموسمي المحتفي بالجراحات، المنهمك في التنظير بلا طائل لكيفية النزيف، ورغم كل الوجع الذي ميز ملامحها على مدى عمر، ينهض دوما العناد والامل والتوق مضادا حيويا فعالا في مواجهة اكتهال السنين وركضها نحو اعتياد الاحزان!، لتظل الذاكرة صبية عفية فتية يقظة شديدة الانتباه وان تجاوزت الستين من عمر الفقد والاغتراب والحنين.
المراجع
جردية الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد تصنيف :بسمة النسور