قد نعجز عن تصور شكل الحياة من دون حضوره في كل تفاصيلها! إذ لا مناص من الاعتراف بحقيقة اعتمادنا النفسي المطلق عليه، حتى ان ذاكرتنا نفسها تمادت في كسلها وشرعت في الاهتراء بسبب من قلة الاستخدام.
أصبح "الموبايل" خلال سنوات قليلة بمثابة رئة ثالثة للبشر، وباتوا عاجزين عن التنفس من دونها بحيث تتحول الحياة إلى حالة تهديد مباشر بانعدام الأمان حال فقدانه لأي سبب. وقد يصاب المرء بالهلع وبحالة من انعدام التوازن إلى أن يسترده، فيستكين وتهدأ نفسه.
حتى ألد أعداء التقدم التكنولوجي المتباهين في العادة بجهلهم الالكتروني لم يصمدوا طويلا، وسرعان ما انصاعوا لسطوة رناته التي تقرب البعيد رغم أنها وفي أحيان كثيرة تبعد القريب!.
أصبح الموبايل واحدا من أهم حقائق حياتنا اليومية الثابتة، لكن ونحن نستفيد من مزاياه الكثيرة باعتباره ثورة جذرية في عالم الاتصالات تبيح التواصل مع مشارق الأرض ومغاربها ببساطة تبعث على العجب لفرط بساطتها! في غمرة ذلك كله ننسى أن له أعراضا جانبية شديدة الخطر، وتتطلب منا درجة اكبر من الوعي والانتباه، فالقفزة التكنولوجية هائلة السرعة التي ميزت صناعة هذا الجهاز قفزت به وظيفته التقليدية المنحصرة في إجراء المكالمات الهاتفية ليصبح وسيلة ترفيه متكاملة بخيارات متنوعة، تغني مستخدمه عن التواصل الطبيعي مع الآخرين، وتضعه في حالة عزلة محكمة.
ومما لا شك فيه، وبحسب خبراء في علم النفس والاجتماع فإن للموبايل أثرا سلبيا كبيرا على فئة المراهقين بشكل خاص، والذين باتوا يقيّمون الشخص بحسب موديل موبايله، ما يشكل دافعا للغيرة والتنافس غير الشريف فيما بينهم، ما يولد في الغالب تنامي عقد نقص وحقد طبقي لدى غير الموسرين منهم، وقد يدفع ببعضهم إلى ارتكاب جرائم السرقة  كوسيلة متاحة للحصول على افخر انواع الأجهزة المطروحة حديثا  لغايات التباهي المحض.  
تتجلى في السياق ذاته أعراض جانبية اشد خطورة، لعل ابرزها إمكانيات التقاط الصور وتصوير أفلام الفيديو بكبسة زر، حيث الفرصة متاحة دائما لانتهاك خصوصيات الآخرين وتعميمها، ما قد يؤدي إلى ارتكاب ما هو اخطر من السرقة.
ويعرف الكثيرون أن ثمة صبية مغلوبة على أمرها تقبع الآن في السجن احترازيا مهددة بالقتل من قبل ذويها المجروحين في سمعتهم حال تخطيها أسوار السجن بسبب مشهد التقط لها تحت التهديد وفي ظروف غاشمة ممعنة في الظلم والإجحاف ومصادرة الإرادة. وقد تم تداول المشهد الجارح على نطاق واسع من دون مراعاة لعنصر الإكراه الواضح في السياق.
ثمة مشاهد شديدة الإيذاء تداولها كثيرون من دون رأفة، ولعل صورة الاشلاء المقطعة للجدة وحفيدتها التي قضت ذبحا وتقطيعا واحدا من تلك المشاهد التي لم يجد بعضهم حرجا في انتهاك حرمة الموت، وفي الاعتداء على حق المغدورات في الرقود بسلام!!
وكما يقتنع الآباء بضرورة الرقابة على نشاط ابنائهم في شبكة الانترنت،  كوسيلة لحمايتهم والتأكد من عدم تعرضهم للأذى الجسدي والنفسي، تبدو الحاجة للرقابة أكثر إلحاحا في كيفية تعاطي أبنائنا مع هذا الجهاز.
كذلك ولا يمكننا بأي حال إنكار كونه واحدا من أهم اختراعات البشرية بحسب استفتاءات عالمية، لكن علينا من باب الصدق مع الذات طرح سؤال حول مدى استحقاقنا التمتع بكل تلك المزايا في ظل واقع عدم تطويرنا تقاليد وسلوكيات تعمل على حماية خصوصية الأفراد من الانتهاك!.
وهل حقا تجاوزنا أمراضنا الاجتماعية القائمة على الاستعراض الفج للمقتنيات؟
هل فعلا تشكل لدينا وعي وإدراك للأعراض الجانبية الناجمة عنه؟ وهل نملك أي وسائل دفاع وحصانة لمواجهة الآتي من عالم متفجر لن يتوقف عند أي حد في الابتكار، فيما نحن لن نتوقف عن ممارسة ثقافة التلقي والاستهلاك؟!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   تصنيف :بسمة النسور