لن يختلف علينا شيء في رمضاننا الوشيك هذا، ولن يحول لهيب الأسعار الذي نتذمر منه جملة وتفصيلا دون أي من طقوسنا الاجتماعية المكرسة رمضانيا عبر السنين حاملة ملامح الطابع الاستهلاكي ذاته المسرف والمؤسف وغير المسؤول.
المحال التجارية ومنذ الآن في حالة تأهب قصوى: مهرجانات تسوق، ووعود بجوائز قيمة، وعروض شراء مغرية، والفزعة الغذائية بكل عدتها وعتادها من كربوهيدرات وبروتين وسكريات على أشدها، ذلك في سياق الحشد والرباط لمواجهة رمضان صيفي ليس بيسير، سيتجهم الصائمون حتما سيما المدخنون منهم طيلة ساعات النهار الطويل، حيث الحرمان من الكافيين والنيكوتين، وبالنتيجة سوف تتدنى إنتاجية الناس وقدرتهم على التفاعل بسبب، من الحر والعطش والجوع، وستصبح أرواح موظفي الدوائر الحكومية الخدماتية في إنوفهم ضيقا بالمراجعين الذين لن يقلوا توترا وعصبية وحنقا.
ستقام ولائم الإفطار الباذخة الرسمية منها والشعبية حيث مظاهر التبذير على أشدها، كما أن التكاتف الأسري الموسمي سيشهد نشاطا ملحوظا في الأيام المقبلة، وسيزمجر السائقون ضيقا وغضبا قبيل ساعات الإفطار جراء الاختناق المروري، وستشهد المحال التجارية ازدحاما ملحوظا على كل البضائع من دون استثناء، وسنرى طوابير على أبواب المخابز للحصول على القطايف "أبو خمسة وتسعين قرشا للكيلو" بموجب قرار حكومي نافذ، وذلك بارتفاع بلغ الضعف فقط قياسا إلى العام الفائت!
عند موعد الإفطار سوف تهدأ النفوس وتستكين، وسوف يرتمي الكثيرون من فرط التخمة في مواجهة شاشات التلفزيون مستسلمين بالكامل للتنكيل الترفيهي الرمضاني، متجسدا في المجزرة الدرامية الدائرة رحاها حتما طيلة أيام الشهر من المسلسلات على أنواعها التاريخية والاجتماعية العاطفية والكوميدية التي ما يزال معظمها ينحدر في مستواه الفني رمضان تلو الآخر.
المقبلون على الحياة لن يكتفوا باقتراحات شركات الإنتاج الفني وسوف يتوجهون إلى الفنادق والمقاهي حيث السهرات الرمضانية التقليدية بما يتخللها من أراجيل وترمس وعروض فنية ومسرحيات مسلوقة ذات طابع تجاري لا يخلو من تهريج، أو يكثفون نشاطهم في اولمبياد الشدة وطاولة الزهر التي أصبحت معادلا موضوعيا لأمسيات رمضان الممتدة إلى وقت السحور.
ستبادر الشركات الكبرى إلى دعوة موظفيها إلى مآدب رمضانية باذخة، وستكتظ الصحف بالإعلانات المحرضة على مزيد من الاستهلاك غير المدروس، سيتذرع الطلبة بعدم القدرة على التركيز بسبب الصيام وسوف يكون لبرامج الكاميرا الخفية الدور الأساسي في بث أسباب البهجة التي سرعان ما سوف تزول في صبيحة اليوم التالي بسبب من تبعات الإفراط في الأكل والشراب والسهر، ما ينجم عنه نهارات طويلة من التوتر والانفعال السريع.
لن يختلف علينا شيء في رمضاننا هذا، بعض الجوعى سيشبعون إلى حين بفعل فزعة التقوى والورع الطارئة المرتبطة بالشهر الفضيل، غير أن ثمة كثيرين ممن سوف يتكتمون على جوعهم صونا لكبريائهم ولعزة أنفسهم. وتبقى غائبة للأسف حكمة الصيام المتمثلة في تحقيق فكرة التكافل الاجتماعي كمنهج حياة غير مرتبط بموسم بعينه، يظل التدبر في تلك الحكمة في منأى عن الأكثرية الصائمة المنهمكة في كل شيء ربما باستثناء خلق فسحة تأمل بفكرة الحرمان التي يرزح تحتها خلق كثير طيلة أشهر العام قاطبة من دون أمل بقدوم لحظة غروب سخية تطعمهم من جوع وتخفف إحساسهم بظلم ذوي القربى. هؤلاء الذين يتنبهون موسميا إلى حاجات تلك الفئة المحرومة محاولين توظيفهم بصفة كومبارس في كرنفال الإحسان المصطنع.
لكن رمضان يظل كريما في جميع الاحوال، فكل عام وأنتم بخير!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد تصنيف :بسمة النسور