لم يظهر "الفلول" و"الإخوان المسلمون" والعسكر في مصر تقديراً وفهماً ناجحاً للتحولات والتحديات الجديدة التي نشأت بعد الربيع العربي، والأسباب والمقدمات المنشئة له، والتي يمكن ملاحظتها وإجمالها ببساطة في الإجماع الوطني، والنهضة الاقتصادية والتنموية، والحريات.
لكن ما تفعله الأطراف السياسية النخبوية اليوم، هو محاولة إعادة إنتاج الصراع، بالقفز على الحراك الشعبي والجماهيري وتطلعات المجتمعات، لإعادته كما كان من قبل، وكأن الجماهير التي خرجت إلى الشارع وأجبرت حسني مبارك على التنحي فعلت ذلك انتصاراً لطرف ضد طرف، أو لأنها تريد أن يكون محمد مرسي أو عبدالفتاح السيسي أو محمد البرادعي أو عمرو موسى أو حمدين صباحي رئيساً لمصر بدلاً من مبارك! أو أنها خرجت وضحت لأجل نصرة "الإخوان المسلمين"! 
لم تتذكر النخب والقيادات السياسية الإجماع الوطني الذي صنع الربيع العربي والمصري. ولا أحد من هذه النخب يرى أهمية لنهضة ممكنة للبلاد لأجل التنمية الاقتصادية، وتحسين الحياة وتطوير الخدمات والمرافق، واستصلاح الموارد وتعظيمها؛ كأن مصر لا تحتاج سوى أن يحل رئيس محل رئيس آخر، أو يأتي حزب سياسي بدلاً من حزب آخر، ليواصل قيادة البلاد والموارد بالنخبوية والاحتكار والهيمنة نفسها التي ظلت سائدة! وكأن الشباب والطبقات الوسطى والفقيرة لا دور ولا أهمية لها سوى أن تضحي وتتظاهر وتُقتَل في الشوارع والساحات!
كان السيناريو المنطقي والمتوقع عندما اشتد الصراع وخرجت الجماهير إلى الساحات معبرة عن انقسامها وانسداد أفق الاستمرار ومواصلة العملية السياسية، أن يكون الجيش طرفاً مبادراً إلى تشكيل إجماع وطني يضع التيارات والقيادات السياسية أمام مسؤوليتها في التعايش والعمل المشترك، وتنظيم اختلافاتها وإدارتها سلمياً ومؤسسياً، أو على الأقل ينشئ ائتلافاً قادراً على التماسك والتنافس في آن.
لم يكن ثمة مناص من التقدم خطوة أخرى إلى الأمام بعد 25 يناير، هي التعايش والعمل المشترك ودمج جميع المواطنين على اختلاف طبقاتهم وانتماءاتهم وأفكارهم وهوياتهم في مشروع اقتصادي واجتماعي جديد، ولم يكن البديل سوى العودة إلى ما قبل الربيع. ولكنها عودة تشبه محاولة إعادة الطفل الوليد إلى بطن أمه! 
لم يكن الجيش موفقاً في تقديره بأن مصر يمكن أن تتحول إلى النموذج الجزائري، أو أن المصريين سيرحبون ويقبلون بعودة العسكر وهيمنتهم على الحياة السياسية. ولم يكن "الإخوان" موفقين في تقديرهم بأن المصريين يمكن إعادة تشكيلهم في طوابير وجماهير مؤيدة، كما "الإخوان المسلمون" أنفسهم في تشكيلاتهم التنظيمية والمؤيدة لهم؛ فالمجتمعات ليست جماعة، والشعب ليس تنظيماً. ولم تكن النخب السياسية العلمانية والفلولية موفقة في ثقتها المفرطة بنفسها وتميزها. لم تكن قادرة على أن تشم الرائحة الكريهة المنبعثة منها، ولم تكن تدرك أنها تزكم الأنوف وتقرف الناس منها!
المسألة تبدو ببساطة ووضوح في أن الطبقات الاجتماعية التي هُمّشت وأُضعفت لم تعد تقبل باستمرار اللعبة السياسية والاقتصادية، وتداول الفرص والموارد كما كانت من قبل. ولا مفر من تخيل التعايش معاً.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  ابراهيم غرايبة   جريدة الغد