يحتاج الواحد منا بين الحين والآخر إلى وقفة لالتقاط الأنفاس، والتحديق جيدا داخل الروح المتعبة من فرط اللهاث في دروب هذه الحياة.
من حق أنفسنا علينا أن لا نغيب عنها طويلا، وأن نوثق أدوات الاتصال معها، كي لا نفقدها في غمرة الركض سعيا إلى كسب المزيد من كل شيء. فنقع كليا في الغربة وذلك كمحصلة بائسة، لن يخفف من مأساويتها أي مكتسب أو إنجاز مهني مهما كان باهرا، لأن خسارة الذات تبقى هي الخسارة الكبرى غير القابلة للتعويض.
من شأن هذه الحقيقة غير البسيطة أن توقظنا من غيبوبتنا الدائمة، في ظل أجواء تنافسية ضاغطة تستنزف الكثير من الجهد والطاقة.
ورغم أن الخبراء في علم الإدارة يؤكدون أن الإفراط في العمل لن يحقق أي تميز يذكر، بل هو سبب رئيس لتراجع الأداء الوظيفي جراء إغفال الاحتياجات النفسية من الراحة، والتمتع بين الحين والآخر بإجازات كفيلة بتذكير الفرد بآدميته وحاجته الإنسانية البسيطة لإعادة شحن الجسد والروح، وإلى التواصل الطبيعي مع أشخاص خارج نطاق المهنة.
إلا أن ثمة نماذج من الناس يمكن اعتبارها مهووسة بشكل كلي في شؤون العمل على مدار الساعة، هذه النماذج تصنف وفق علم النفس بأنها من المدمنين على العمل غير القادرين على الإقلاع عنه بسهولة، أو الخروج من سطوته وتخصيص وقت للحياة الشخصية والاسترخاء ولو لبرهة وجيزة، فلا يستطيعون التوقف أو التخفيف من مقدار انشغال أذهانهم طوال الوقت بقضايا متعلقة بعملهم، وكأنهم أطروا وجودهم كله واختصروه ضمن هذه الجزئية من حياتهم، بحيث أضحت هي عنوان شخصيتهم الحصري، حتى لو تعمدوا الابتعاد عن تلك الأجواء تجدهم بشكل لا شعوري يتحدثون عن تفصيلات متعلقة بالعمل، وحين يميلون إلى الصمت يفكرون في الواقع بذات القضايا.
ثمة آثار اجتماعية خطيرة يرتبها مثل هذا الإدمان على الشخص نفسه وعلى حياة المحيطين به، وهو الغائب رغم وجوده الفيزيائي، عن حياة العائلة، ما يشكل تهديدا لتماسك الأسرة، ففي حياة هذا النموذج ثمة دائما أقرباء عاتبون وزوجة ناقمة جراء هذا الغياب الذي يرتب عليها أعباء إضافية، وأولاد ساخطون لديهم إحساس متنام بالغبن لحالة اليتم القسري التي يجدون أنفسهم فيها، بسبب من انهماك الأب بعالمه، مبتعدا بالكامل عن تفاصيل تهم أولاده، بذريعة الانشغال الدائم بأمور ملحة لا يمكن تأجيلها، غير مدرك كم هي ثمينة هذه الأيام الضائعة، وكم هي غير قابلة للتكرار إذ سرعان ما يكبر الأولاد، ويكفون عن الاكتراث بحضور أبيهم الذي تخلى عنهم في ما مضى في عزّ حاجتهم إليه، معتقدا أن وظيفته الوحيدة تكمن في إعالة العائلة وتأمين مستقبلها غير متنبه أنه في الأثناء تنازل طواعية عن اللحظة الراهنة وفقد كل الضمانات المتعلقة بالحاضر!!
التفوق المهني أمر رائع وتحقيق الأمان الوظيفي انجاز مهم، غير أن التوازن والاعتدال مطلوبان وضروريان كي يتمكن الفرد من الوصول إلى فكرة الرضى عن الذات، والحيلولة دون الوقوع في الإحباط الذي يؤدي إلى جملة أمراض تتصل مباشرة بالتوتر النفسي والإرهاق الناجم عن الإفراط في العمل، وغالبا ما يعاني هؤلاء من صعوبات في التأقلم أو عقد صداقات ذات طابع إنساني بحت في معزل عن أجواء المهنة، وهي والحال هذه هويته الأساسية التي سوف يشعر بالضياع وقلة الحيلة، وغياب المعنى لكل حياته فيما لو فقدها، لأنه سيحس أن رصيده على المستوى العائلي والاجتماعي سيكون تحت الصفر، وحين يقرر الخلود إلى الراحة في نهاية الأمر سيجد نفسه بلا حلفاء حيث أولاده المنهمكون بدورهم في بناء مستقبلهم المهني، واضعين نصب أعينهم التفوق عليه، فيما أولادهم يعانون من غياب جديد.
المراجع
alghad.com
التصانيف
صحافة جريدة الغد بسمة النسور