كان من الممكن جدا وانسجاما مع تنامي ظاهرة عنف الشوارع الراهنة، أن يتصدر عناوين الصحف والمواقع الإلكترونية نبأ مصرع شاب عشريني، في وسط البلد عشية العيد، على يد مواطن فار دمه وثارت حميته ولم يحتمل جسارة ووقاحة ذلك الشاب الذي سمح لنفسه مستغلا زحمة وقفة العيد بالتحرش بأسلوب لا يخلو من خسة وجبن، بزوجة الرجل ذات المظهر والسلوك اللائق والمحتشم جدا، وهي التي كانت مرافقة لزوجها وأطفالها  شأن أي عائلة طبيعية تتجول في قلب مدينة حضارية.

 

وكان من الممكن كذلك وفي أحسن تقدير أن ينتهي الأمر بمشكلة كبيرة يجري فيها سحب مواس وطعن وجروح وقطب وضمادات وضلوع متكسرة وشتائم من العيار الثقيل، وجرجرة إلى المخافر، وحبس على ذمة التحقيق، وتقرير طبيب شرعي، وجاهات وعطوات وتوسلات بالصفح وبوس لحى، وعائلة يجللها العار والخزي والحرج وفقا للمثل الشعبي القائل "الولد العاطل بيجيب لأهله المسبة"، وبالضرورة ثمة أب حانق سيصرخ بوجه إبنه قائلا: الله يغضب عليك بجاه هذا اليوم الفضيل. وأم مغلوب على أمرها تتنازعها مشاعر الخيبة والغضب والشفقة على ابن لم تحسن تربيته، ولم تعلمه أبسط مبادئ الشهامة والاحترام لكرامة وخصوصية الآخرين وحقهم في التجول في الأماكن العامة من دون التعرض للأذى والإهانة، باعتبار أنه رجل ولا يعيبه شيء، ولعلها في مرحلة ما كانت فخورة بزعرنة الولد خفيف الظل من وجهة نظرها العاطفية حصرا، ومع ذلك فإن قلبها لا يطاوعها بمجاراة غضب الأب المعروف بسمعته الطيبة بين الناس.

 

غير أن كل تلك السيناريوهات لم تحدث، لأن السيدة المتحرش بها، آثرت التزام الصمت وابتلاع الإهانة الجسيمة بعد أن شكرت الله أن زوجها لم يتنبه إلى ما حدث، ولم يفهم لماذا أصرت على العودة إلى البيت قبل أن تكمل ابتياع ثياب العيد لصغارها.

 

ولشديد الأسف فإنه لا يمكن اعتبار تلك الحادثة فردية  وغريبة عن ثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا، لأنها ببساطة ليست فردية بل إنها تحدث دائما، ليس في أسواق البلد الشعبية فحسب، وإنما في أرقى المولات وأكثرها بذخا، رغم توجه إدارات تلك المولات إلى منع الدخول إلا للعائلات والحد من دخول المتسكعين إلى مرافقها.

 

وغالبا ما تميل ضحايا التحرش إلى الصمت حقنا للدماء ودرءا للفضيحة وتجنبا للوم والاتهام. في ظل ثقافة مشحونة بالعداء تجاه الأنوثة تتعاطى معها كعنوان للخطيئة، وليس بسر أن أي سيدة في عمان تواجه رعبا مشروعا قبيل استخدام المصاعد، وكذلك تجد صعوبة وحرج في أثناء انتظار سيارة تاكسي، وذلك مهما بلغت درجة احتشامها، لأنها ستعامل كمشروع طريدة، يتسابق أصحاب سيارات بلا أدنى ذرة كرامة على التحرش بها. ولا تنجو سائحات كذلك من محاولات تحرش صفيقة   أبطالها عادة من فئة الفاشلين المتبطلين.

 

وما يثير الغيظ فعلا تلك الفكرة التي يتبناها كثيرون  وتنطوي على إدانة الضحية، عوضا عن الانتصار لها والتعاطف معها، ضمن منطق شديد الإعوجاج، يضع المرأة دائما في موقع الاعتذار عن أنوثتها.

 

أما السؤال الذي ظل معلقا ولم أتمكن من التوصل إلى إجابة حاسمه بشأنه فهو: هل تصرفت سيدة السوق بحكمة حين كتمت غيظها من باب "خليها في القلب تجرح "، أم هل كان ينبغي عليها أن تأخذ موقفا أكثر حزما وشجاعة مهما بلغت النتائج المترتبة على الإفصاح من عنف ودموية؟!           
 

المراجع

alghad.com

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   بسمة النسور