لكل الدول والمجتمعات رواياتها وأساطيرها المؤسسة التي تقوم حولها، وتستمد منها الثقافة والفنون والتاريخ والهوية. وتقوم رواية معظم الدول العربية الحديثة على الاستقلال والتحرر. أما الرواية المؤسسة للأردن، فهي "التحديث".
الأردنيون تجمعوا وفاوضوا الإنجليز، وبايعوا الأمير (الملك) عبدالله الأول على إنشاء دولة حديثة. وحول التحديث، نشأت المؤسسات، والقوات المسلحة، والمحاكم، والمدارس، والطرق، والجامعات، والطاقة، والمشروعات التنموية والاقتصادية؛ ونشأت عمان العاصمة؛ وتشكلت
أيضا النخبة السياسية والبيروقراطية والاقتصادية، والأسواق والوكالات التجارية... وهذه السياسة العامة المؤسِسة للدولة أنشأت ثقافة مجتمعية كاسحة في الإقبال على التعليم، باعتباره مدخل التقدم الفردي والاقتصادي والمجتمعي، لأن التحديث يعني التعليم.
رواية التحديث الأردنية تعني أيضا، ببساطة ووضوح، أنه لا حصانة ولا بيعة إلا للأسرة الحاكمة من عقب الملك المؤسس. أما النخبة الأردنية، ممن قدموا إلى الأردن أو من المواطنين الأصليين الذين تقدموا في الحياة والعلم والعمل، فإن بقاءها واستمرارها يعتمد على "الكفاءة". فالأردنيون قبلوا بالنخبة، وأسلموا لها مقاليد المؤسسات، ومنحوها الامتيازات الواسعة، لأجل (يفترض) كفاءتها!
ثمة انقلاب كبير يجري اليوم على هذه الرواية (التحديث والكفاءة)؛ فالنخب التي تشكلت من امتدادات "العمالة الوافدة"، ومن أبناء وأحفاد الرواد، يعتقدون ويتصرفون على أساس حقهم في وراثة الفرص والمواقع، حتى لو كانوا غير أكفاء. وهم يهيمنون على القطاعين العام والخاص من غير جدارة أو تنافس عادل. كما يجري أيضا إفشال المؤسسات العامة التي يُفترض أنها المدخل الأساسي للتحديث والتأهيل، وتقديم أجيال متواصلة من القادة والمبدعين؛ المدارس والجامعات والمستشفيات والرعاية الصحية والاجتماعية.. وفي ذلك، فإننا نعمل ضد أنفسنا، ونسخّر الموارد العامة التي يدفعها المواطنون ضرائب تُحصّل من قوت عيالهم، في غير ما يجب أن تُنفق لأجله، بل وضد المواطنين ومعظم الطبقات الاجتماعية والاقتصادية! وندمر العقد الاجتماعي المؤسس للدولة والمجتمعات والمدن والأعمال، وهو ببساطة "حكم الأكفأ". وتتبع ذلك متوالية من الفساد والفشل والانهيار الاجتماعي والسلوكي؛ لأنه حين يرى المواطنون هذا التحيز والمحاباة في توزيع الفرص والموارد، تنهار الثقة وقيم الولاء والانتماء.. كما أنها منظومة من العمل المضاد في الوقت غير المناسب، في مرحلة اقتصاد المعرفة، عندما صارت الموارد والأعمال مستمدة من المعرفة والإبداع؛ ما يقتضي بالضرورة تعزيز بيئة التنافس ورعاية الموهوبين والمتفوقين، وعدم التساهل أبدا في إسناد الأمر إلى غير أهله! لماذا يحمل الأردنيون، على اختلاف مواقفهم السياسية والفكرية، شعورا قويا بالاحترام والتقدير لشخصيات مثل سليمان النابلسي ووصفي التل وأحمد عبيدات؟ لأن هؤلاء، ببساطة، يمثلون نموذج رجل الدولة النزيه الكفؤ، والأردنيون يفعلون ذلك إيمانا برواية التحديث والكفاءة!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة ابراهيم غرايبة جريدة الغد