باغانيني (نيكولو ـ)
(1782 ـ 1840م)
نيكولو باغانيني Niccolò Paganini عازف كمان وفيولا viola[ر.الكمان] وغيتار، ومؤلف موسيقي إيطالي، ولد في جنوة بإيطالية وتوفي في نيس بفرنسة. بدأ دراسة الموسيقى في سن السادسة على يدي والده عازف الماندولين mandoline [ر.العود] الهاوي الذي رغب في الاستفادة من مواهب ابنه الموسيقية ساعياً جهده أن يجعل من الصبي عازفاً ماهراً. ثم تابع الابن دراسة الكمان مع بعض عازفي الأوركسترا في مدينته، وأحرز تقدماً مدهشاً في وقت قصير، وألّف أول قطعة موسيقية «سوناتا» sonata ولما يتجاوز الثامنة من عمره. وفي سن التاسعة، أقام باغانيني أول حفل له عزف فيه أمام الجمهور. ثم قام وحده عام 1797 بجولة موسيقية في عدة مدن إيطالية أدهش فيها مستمعيه. وفي عام 1801 بدأ دراسة العزف على الغيتار أتبعها بدراسة التأليف الموسيقي. وأسندت إليه، بين عامي 1805-1813، إدارة الموسيقى في قصر دوقة لوكّة Lucca (توسكانة)، شقيقة نابليون، وأصبح باغانيني عازف الكمان والفيولا والغيتار الذي لايضاهى في عصره. وفي عام 1828 بدأ جولة موسيقية في معظم مدن أوربة استغرقت ست سنوات انتزع فيها إعجاب الجماهير ولُقب على إثرها «أكبر عازف كمان في أوربة»، و«عازف الحاشية الملكية الأمثل» في فيينة، مما حمل الكثيرين، في هذه المدينة، على طبع صوره ونسخ اسمه في كثير من أنواع المأكولات والمقتنيات الخاصة. وتابع باغانيني جولاته في باريس ثم لندن عاد بعدها إلى باريس ليلتقي في بداية عام 1834، بالمؤلف الموسيقي الفرنسي برليوز H.Berlioz طالباً إليه تأليف قطعة موسيقية «حوارية» (كونشرتو) concerto للفيولا والأوركسترا خاصة به. وقد لبّى برليوز طلبه في مؤلفته «هارولد في إيطالية» إلا أن الأحوال لم تواتِ باغانيني بأدائها.
كانت هيئة باغانيني الشخصية مثاراً للدهشة وأسهمت في التأثير في جماهيره. وقد قال عنه أحد النقاد الفرنسيين: «يبلغ طول باغانيني خمسة أقدام وخمسة أصابع، فهو طويل القامة، نحيل جداً هش الجسم، وهو ذو وجه أصفر متطاول وأنف طويل، وله عيون صقر وشعر متموج مسبّل حتى الكتفين يخبئ عنقاً دقيقاً، ويقسم وجهه خطان عميقان على هيئة S التي يتميز بها وجه الكمان«. هذا المظهر الغريب لباغانيني، جعل الناس يعتقدون بأنه من أصل شيطاني أو أنه ابن للشيطان ذاته، وإن مظهره غير الاعتيادي ومهارته الفائقة وحركاته المثيرة في أثناء العزف جعلت منه أسطورة خيالية. فهيئته الشيطانية، والهالة التي أحاطت بحياته الاجتماعية المليئة بالمغامرات بشتى أنواعها، والميثاق الأسطوري الذي عقد بين الشيطان وعبقريته الاستعراضية مع الكمان، كانت كلها تعكس أحد مظاهر الفن الإبداعي لديه. وإن الكلمات «المعجزة»، و«الخارق»، و«فوق الطبيعي» كانت جميعها تدور حوله بأقلام النقاد وقتئذٍ. كما كان مثار الدهشة لدى جميع معاصريه من موسيقيين وفنانين وأدباء.
لما كانت الحياة الموسيقية في أوربة، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تتقدم بخطوات حثيثة، فتح باغانيني الأبواب مشرعة أمام تطوير تقنيات العزف على الآلات الموسيقية جميعها، مما أتاح لمعاصريه من الموسيقيين مثل ليست Liszt، وشوبان Chopin وغيرهما، مجاراته في تطوير تقنيات العزف، وخاصة على آلة البيانو، حتى بلغت الذروة في الإتقان وأولاها الموسيقيون الإبداعيون جل اهتمامهم. لقد أوسع باغانيني أفق التعبير الموسيقي لآلة الكمان في أسلوب أدائه وابتكاراته، فكشف أسرار هذه الآلة مستغلاً جميع إمكاناتها المعبرة. فكان أول من أبرز أهمية الوتر الرابع للكمان فخصص له عدة قطع موسيقية مثل سوناتات «ماريا لويزا»، و«نابليون»، و«أفكار لحنية مختلفة»، واستخدم طريقته الخاصة في العزف على أوتار الكمان ـ غير المضبوطة أو غير المسوّاة untuned ـ متنقلاً بين جميع أصواتها بأبعادها المختلفة لقدرته في حرية تنقل يده اليسرى على زند الآلة. فكان يعزف أكثر الانتقالات خطورة بكل سهولة كاستخدام أصعب حالات العزف على عدة أوتار معاً، وتصالب الأصابع في سرعة مذهلة، والريادة في عزف نغمات «المدروجات الصوتية أو النغمات التوافقية» overtone، واستخدام طريقة النقر بالأصابع pizzicato مع ضربات القوس على الأوتار باليدين معاً في آن واحد بسرعات فائقة.
وقد رافق النجاح الباهر والمتواصل أنشطة باغانيني في التأليف والأداء معاً. وكان يعاني مرضاً عصبياً كان يعاوده مما كان يضطره في كثير من الأحيان إلى الانقطاع عن العزف. ولعل ذلك ماكان من أسباب تقلّب طباعه وميوله وأطواره غير المستقرة. كما أوقعه حبه للمال في براثن القمار وضياع مدّخراته واضطراره إلى رهن كمانه لتسديد ديونه. إلا أن ذلك لم يمنعه من مواصلة العزف حتى دنو وفاته. ولم يدفن باغانيني في المقابر العامة بسبب رفضه مباركة الكاهن له وشجاره معه حين زاره وهو على فراش الموت. إلا أن ابنه استطاع أن ينال عفواً من البابا، بعد خمس سنوات من وفاة والده، ونقل جثمان باغانيني إلى مدينة بارمة Parma الإيطالية ودفن فيها من جديد.
تتصف موسيقى باغانيني في «الحواريات» ببراعة تقنية الأداء المنفرد للكمان. ولا تقل «النزوات» capricci الأربع والعشرون التي ألّفها أهمية عن سابقتها، وهي مازالت تقدم في معظم الحفلات الموسيقية العامة، وهي تعد في أكثر أعماله قيمة وذات خصوصية بارزة وجميلة مليئة بالانسجام harmony وأداء مميز. كما تتصف «النزوات» أيضاً بوفرة الخيال الشاعري الرومنسي مما يشهد أن قيمة باغانيني في التأليف الموسيقي لا تقل أهمية عن براعته في الأداء. وقد ألْهمت بعض ألحانه وخاصة «النزوة الرابعة والعشرون» كثيراً من المؤلفين الموسيقيين، من غير الإيطاليين، مثل: برامز Brahms، وشومان Schumann، وليست، وبلاخر Blacher، ولوتوسلافسكي Lutoslwsky في كتابة قطع موسيقية مخصصة للبيانو، مجاراة للكمان.
شذّ باغانيني عن زملائه الموسيقيين الإيطاليين المعاصرين له الذين أولوا الأوبرا opera اهتماماً بالغاً في مؤلفاتهم الموسيقية. فقد كتب مؤلفاته للآلات الموسيقية فقط مثل الغيتار والفيولا، وخاصة الكمان التي كتب لها أعمالاً موسيقية بمصاحبة الأوركسترا، ومنها ست «حواريات»، و«تنويعات لحنية» variations، و«حركة دائمة» moto perpetuo، و«الساحرات» le streghe. كما كتب قطعاً موسيقية متعددة للكمان مع البيانو، و«24 نزوة» للكمان فقط، وعدة «سوناتات» منها للكمان مع البيانو ومنها للكمان مع الغيتار، وست «رباعيات» quartets للكمان والفيولا والتْشيلّو cello [ر.الكمان] والغيتار، و«دراسات» études للكمان مع الغيتار و«باليه» ballet ريفية ذات ثلاثة ألحان وصفية.
وقد كتب المؤلف الموسيقي الهنغاري فرانتزليهار F.Lehar «أوبريت» operette [ر.الأوبرا] بعنوان «باغانيني» يدور موضوعها حول كمانه الشهيرة، وقُدمت الأوبريت أول مرة عام 1925 على مسرح يوهان شتراوس J.Strauss في فيينة.
حسني الحريري
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث