عادي جداً هذا الشغف والافتتان الكروي الحاصل في العالم كله، والطاغي على القضايا السياسية الكبرى العالقة. ذلك استحقاق مونديالي يفهمه كثيرون، وهو أمر متوقع ومبرر إلى حد بعيد، فاللعبة على ذمة متابعيها، مدهشة وشيقة حافلة بالجماليات والفن والإبداع الذي يحبس الأنفاس.
ومن المعروف أن كرة القدم هي اللعبة الأكثر انتشارا في كافة أرجاء الدنيا والأصل أنها لعبة أولاد حارات شعبية فقيرة مكتظة، يمارسها الفقراء ممن لا يملكون ثمن كرة لائقة فيتدبرون أمرهم بكرة يصنعونها من جوارب قديمة أو كتلة شرائط محكمة الالتفاف، ويرتجلون مرمى من كومة حجارة وألواح زينكو، وغالبا ما انبثق من تلك البيئة الفقيرة نجوم كبار من وزن بيليه ومارادونا ورونالدو وغيرهم، شكلوا مفاصل أساسية في تاريخ اللعبة، بدأوا تدريبهم الفعلي في تلك الأزقة الضيقة، وبلغوا مرحلة الاحتراف من دون كلفة تذكر، وبمجرد أن تدفعهم أمهاتهم إلى اللعب في الحارة لحين إعداد وجبة العشاء، ليتحولوا في نظر مواطنيهم إلى أبطال قوميين حازوا المجد والشهرة والفخر لبلادهم، فنافسوا أعتى نجوم السينما وتلقفتهم أقوى الأندية الرياضية وتهافتت عليهم الشركات العملاقة، وحولتهم إلى وجوه إعلانية ذائعة الصيت.
على صعيد محلي ومنذ زمن ليس بسحيق جدا كان للمونديال في بيوتنا سحر وخصوصية وأجواء احتفالية لم تخلُ من صخب وحيوية وتنافس ونقارات طفيفة بين أزواج، طقوس جميلة تشبه ليالي الأعياد، أحبها حتى أولئك من غير المهتمين والجاهلين بأصول اللعبة: قفزات الآباء المفاجئة عن مقاعدهم عند اقتراب الكرة من المرمى، وصيحاتهم المشجعة أو المقرعة للاعبين الذين يضيعون فرصاً ذهبية في أوقات ثمينة. تبرم الأمهات من هوس رجال العائلة الذي يحول دون متابعتهن لمسلسل ليالي الحلمية حيث الخصومة بين صلاح السعدني ويحيى الفخراني على الفوز بقلب صفية العمري أكثر إثارة للفضول!
إعجاب الصبايا الخفي وتشجيعهن غير المبني على أي دراية رياضية للطليان، كون لاعبيهم الأكثر وسامة دائماً، اجتماع الشباب في بيت أحد الأصدقاء وانقسامهم إلى أضداد متناكفة، وعقدهم مراهنات بريئة لا تتعدى تكليف مشجع الفريق الخاسر بإعداد إبريق من الشاي بالنعناع، وقد يتهور مشجع بالغ الحماسة فيتعهد بسدر كنافة من النوع الفاخر حال فوز فريقه!
كان ذلك يحدث ببساطة وعلى شاشة التلفزيون الأردني شخصياً، ولم يستدع الأمر ابتياع بطاقة اشتراك لقناة الجزيرة الرياضية! وقد طرحت جريدة "الغد" سؤالا فائق الأهمية في أحد استفتاءاتها الدورية عن مدى أخلاقية احتكار القناة حق بث المباريات حصرياً، وجاءت إجابات المشاركين في الاستفتاء لتؤكد أغلبيتها عدم أخلاقية صفقة كهذه من شأنها مصادرة حق الفقراء بمتعة بسيطة تمنحهم لحظات فرح مجانية. وعلى صعيد محلي وفي زمن راهن جداً، تحول المونديال إلى فكرة استثمارية محضة، فينتشر الباعة في الطرقات، وتحقق المقاهي أرباحاً إضافية حين تلزم روادها بدفع مبلغ إضافي لقاء نصب شاشاتها التي تبث المباريات الساخنة، كما قامت شركات كبرى باستيراد أزياء خاصة بالمونديال، من قبعات وأدوات تشجيع وأعلام وعلب مكياج خاصة بالمونديال، تمكن المتحمسين من تلطيخ وجوههم بالرسومات، وبالطبع فإن من يحتاج مثل تلك الصرعات هم أبناء طبقة أبعد ما تكون عن الشعبية، ومع ذلك فإن تلك السلوكيات على تطرفها تدخل ضمن نطاق الحرية الشخصية والحق في الانحياز الكروي المشروع، غير أنه من غير المفهوم أبداً هو ظهور أعلام البرازيل وإيطاليا وألمانيا والأرجنتين ترفرف عاليا في سماء الوطن على سيارات يقودها أشخاص المفترض أنهم تجاوزوا سن المراهقة الرياضية التي تبيح ارتكاب الكثير من الحماقات!
وكل مونديال وأنتم بخير!
 

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   تصنيف :بسمة النسور