تشكلت في مرحلة سابقة صورة لدى الأردني عن نفسه، وصورة عنه لدى غير الأردني، وبخاصة في دول الخليج العربية. وهي صورة إيجابية، سواء رؤية الأردني لنفسه أو رؤية الآخرين له، ساهمت في تشكيلها مجموعة من العوامل، أهمها بالطبع الإدارة العامة، والمؤسسات التعليمية والتدريبية الأردنية التي قدمت نموذج الإنسان الواثق بنفسه، والمحب والمتقن لعمله؛ يقدر العمل كثيرا وينتمي إليه، ولا يساوم بأي حال على مبادئ عمله ومهنته. هو الموظف الملتزم بعمله والذي لا يتساهل مع مخالفة ولا يقبل تسوية غير قانونية أو غير أخلاقية في عمله، والمعلم الجاد قوي الشخصية والحريص على تعليم الطلبة؛ حتى إن مدارس خاصة في الخليج كانت تقدم نفسها في الإعلانات الصحفية بأن الأساتذة الذين يعملون فيها "أردنيون". وكذلك المهنيون من الأطباء والمهندسين والمحاسبين والمبرمجين والمهنيين بعامة؛ المتفوقون في عملهم، والذين يتقنون اللغة الانجليزية، وهي ضرورة قصوى في الخليج، حيث بيئة عمل متعددة الجنسيات ومتعددة الأسواق.
جدية الأردني وصرامته المنتقدة في الأردن، كانت ميزة أساسية محببة في الخليج، تجعله موثوقا ومعتمدا عليه؛ الإنسان القادم ليعمل بأمانة، والحريص على سمعته وهيبته، وبخاصة في مجالات عمل تحتاج إلى هذا النوع من الشخصيات، كالمعلمين والعاملين في الشرطة والجيش.. وسواهم.
هل بقيت الصورة قائمة اليوم؟ هل يرى الأردني نفسه من خلال نجاحه وإتقانه لعمله؟ هل يرى تميزه التعليمي والمهني جزءا من شخصيته؟ هل ما تزال المؤسسات التي تستقطب العاملين في الخليج والغرب، تنظر إلى الأردني بأنه "استثمار معرفي ناجح"؟
ندرك اليوم، بوضوح وصراحة، أن المؤسسات التعليمية لم تعد تقدم الكفاءات العلمية والمهنية ذات السمعة والمصداقية التاريخية للأردني. وتقتحم سوق العمل والدراسات الجامعية والمهنية في الخليج والغرب، مجموعات جديدة من الهند والصين وكوريا والفلبين أكثر كفاءة وجدية، وأكثر اتقانا للغة الإنجليزية، بل إنها تدخل إلى السوق الأردنية، وتنافس الأردنيين في عقر دارهم. وفي مجال العمل من خلال الشبكة العالمية، يعمل عشرات الملايين في الهند والفلبين والصين من بلادهم في البرمجة والتصميم والمحاسبة والاستعلامات والإدارة والاتصالات. وفي التنافس على المنح الدراسية في الجامعات الغربية، يحرز الصينيون والهنود والإسرائيليون الحصة الأكبر.. ذلك أن التفوق والتنافس لا يحتمل النعاس والإعياء؛ ففي اللحظة التي يتخلى أولئك الذين يراهنون على عقولهم ومعرفتهم ومهاراتهم عن شروط التفوق والتنافس، يخرجون من السوق فورا.. وأسوأ من ذلك يفقدون الثقة؛ أساس اقتصاد المعرفة اليوم!
تراجع أداء الإدارة العامة، الذي أشار إليه وانتقده الملك، يقتضي مراجعة شاملة وعميقة لمنظومة تعليمية وثقافية وإدارية تاريخية ومتراكمة. فهذا التراجع لم يحدث بين عشية وضحاها، ولا يتوقف أثره وضرره في حدود الخدمة العامة، ولكنه يُلحِق الأذى بالاقتصاد ومستوى المعيشة وتسويق المهارات والمعارف.. إنه يهدد وجودنا!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة ابراهيم غرايبة جريدة الغد