الارتجال الموسيقي musical improvisation هو إِنجاز عفوي مباشر لفكرة موسيقية من غير تصميم أو تدوين موسيقي سابقين. ويؤديه المغني غناءً والموسيقي في أثناء العزف على آلته الموسيقية.
وقد اعتمدت الموسيقى العربية منذ القديم على الارتجال في الأداء، إِذ إِن الارتجال، عموماً، هو من أصول الموسيقى الشعبية. وكان أكثر المغنين العرب يرتجلون الشعر مع لحنه في أثناء الغناء. وبقيت هذه الظاهرة واضحة في كثير من أنواع الغناء الشعبي، ويكون الارتجال فيه إِما كلاماً أو لحناً أو كليهما معاً. ولعل ترتيل القرآن الكريم والأذان[ر. الإنشاد الديني] ما هما إلا نوع من الارتجال النغمي، وهما أقرب إلى الإلقاء الملحون غير المدوّن بعلامات موسيقية محددة وإِنما مرسوم بمقام موسيقي معين.
وما الزجل الشعبي إلا حوار شعري مرتجل باللهجة العامية المحلية. ويقول ابن خلدون في مقدمته: ولما شاع فن التوشيح في الأندلس وأخذ به الناس لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعراباً، واستحدثوا فناً سمّوه «الزجل».
وقد شهر الزجل في سورية ولبنان، وهو فن يقوم به فريقان من الشعراء الزجّالين يتبارون فيما بينهم فيرتجلون أشطراً شعرية ذات أوزان بسيطة وألحان قصيرة سهلة ورتيبة ترافقها إيقاعات موسيقية معينة حرة بأدوات القرع كالدفوف أو الدرابكات[ر. الآلات الموسيقية]. ويرأس كل فريق زجّال ماهر. وفي بعض أقسام «الدّوْر» المعروف في الأغنية العربية[ر. الأغنية] نوع من أنواع الزجل، وكذلك فإن الجزء الأول من «القدّ الحلبي» [ر.الأغنية] فيه نوع من الارتجال. وقد شهر الزجالون في غناء «المونولوغ» monologue وهو نوع من الغناء الوجداني والعاطفي والانتقادي والسياسي أحياناً ويؤديه زجال واحد ارتجالاً أو بعد إعداد. ومن أشهر زجّالي المونولوغ الحديث: سلامة الأغواني من سورية، وعمر الزعنّي من لبنان، ومحمود شكوكو من مصر، وفي المغرب العربي، يطلق على الزجل كلمة «الملحون» ويقصد به اللحن في الكلام وليس في الموسيقى، وكان يسمى من قبل «القريحة» (الكَريحة) وكان يختلف عن الموشح في البداية، بعدم التزام ناظميه قواعد الإعراب. والملحون (المغربي) يختلف قليلاً عن الزجل (المشرقي) فهو أكثر غناءً وتطريباً. ويعتقد أن الشاعر الأندلسي ابن قزمان (المتوفى عام 1160م) هو مَنْ أحدث الملحون بدافع فطري للغناء والطرب على الطريقة الشعبية، وقد شهر بأنه «إِمام الزجالين». وشهر أيضاً أبو الحسن الشِشتري الأندلسي (المتوفى في مصر عام 1266م) والذي أقام في المغرب، وشاعت أزجاله وقصائده الدينية فيه، ومنها إحدى مقطوعاته التي ما تزال تردد في الأذكار الصوفية المغربية في مدح الله وهي «ألِفٌ قبل لامين، وهاءٌ قرة العين». وكان الششتري من أشهر المرتجلين في الغناء.
وفي الحقيقة، فإن جميع المغنين الجادين يجيدون الارتجال في الغناء، ومنهم مطربو وموسيقيو المغرب العربي مثل الشيخ أحمد الوافي التونسي وكان يأخذ بعض الموشحات أو الأزجال المعروفة (الملقبة بالبطايحية) فيرتجل عليها لحناً جديداً لم يُسمع من قبل.
وهناك نوع آخر من الارتجال الغنائي العربي وهو «المواليا» أو «الموّال» [ر.الأغنية]، وهو عبارة عن أشطر أربعة، في الأصل، من شعر خفيف تنظم على بحر البسيط غالباً، ويكون لحنها مرتجلاً مع التقيد بالمقامات الموسيقية[ر. الموسيقى العربية] من دون الإيقاع. وكان أول ظهور هذا النوع من الغناء في بغداد أيام العباسيين، ويعزو البعض ظهوره إلى أقدم من ذلك. ويقال إِن أول من أنشده جارية جعفر البرمكي التي ندبته بالمواليا، ومن ثم انتقل هذا الغناء إلى سائر الجزيرة العربية ومصر والمغرب العربي.
ومن أشهر أنواع المواليا: «الموال المصري» الذي ينظم باللهجة المصرية وهو مؤلف من خمسة أشطر وعُرف بالأعرج ومنه المواويل الخضر والمواويل الحمر وجميعها شائع في مصر، والموال «البغدادي» أو «الزهيري» وهو شائع في الخليج العربي وفي بلاد الشام، ويقابله «النعماني» أو «البلدي» في مصر، وهو يتألف من سبعة أشطر تنظم بالفصحى وبالجناس في القافية وذلك في الأشطر الثلاثة الأولى منه. والموّال في الموسيقى المغربية الأندلسية فإنه ينشد في شطرين أو ثلاثة أو أربعة أشطر في الشعر الفصيح، ويغنيه المنشد منفرداً على طبع (مقام) «النوبة» وعلى لحن موسيقي حر غير مقيد بالإيقاع.
أما المواويل العامية فلا تتقيد بعدد الأشطر. وقد أدى الموال السوري دوراً مهماً في تطوير الغناء السوري. ويعد إيليا بيضا من لبنان، وصالح عبد الحي ومحمد عبد المطلب من مصر من أوائل المغنين الذين برزوا في هذا النوع من الغناء.
والغناء بكلمة «ياليل» هو من فنون الغناء العربي المرتجل أيضاً، وقد شهر في جميع أنحاء الوطن العربي. وهو نداء الليل بألحان شجية من خلال المقامات الموسيقية يؤديها المطرب بأساليب مختلفة إِبرازاً لمقدرته الفنية. ويؤدي هذا الغناء موزوناً أحياناً في إيقاعات موسيقية مختلفة. وقد تُستهل بعض أنواع الأغاني بغناء ياليل، أو بالتقاسيم، وذلك توكيداً للمقام الموسيقي الذي ترتكز عليه الأغنية وهو ما يسمى، في لغة الموسيقيين، بـ «السلْطنة».
وأما «التقاسيم» فهي كالغناء بـ «ياليل» قالباً إلا أنها تؤدى عزفاً على إحدى الآلات الموسيقية، العربية ـ خاصة ـ، بأسلوب حر لتدل على مهارة العازف في الأداء وحذقه بعلم المقامات الموسيقية العربية. كما يشهر أيضاً ضابط الإيقاع، في الفرقة الموسيقية، بالارتجال في كثير من الأحيان.
كانت الموسيقى في العهود القديمة مرتجلة في غالب الأحيان، وكان الشعراء الجوّالون troubadours الأوربيون، في العصر الوسيط (من القرن الحادي عشر حتى نهاية القرن الثالث عشر)، يجوبون البلاد غناءً وعزفاً على آلاتهم الموسيقية ارتجالاً. وقد حوفظ على حالة الارتجال أيضاً في الموسيقى الكنسية حقبة طويلة وأصبحت تقليداً مميزاً لها. وكان كبار الموسيقيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر يرتجلون ألحانهم الموسيقية عزفاً على الأرغن أو الكلافسان Clavecin[ر. البيانو]. وكان باخ J.S.Bach مرتجلاً بارعاً خصب الخيال، كما كان شوبان Chopin، في القرن التاسع عشر، من المبدعين في الارتجال على آلة البيانو. وما المصطلح الموسيقي الفرنسي «أمبرومبتو» (المرتجل) impromptu[ر. الصيغ الموسيقية] سوى قطعة موسيقية مدوّنة كتبها مؤلفها بعد الارتجال بخياله الموسيقي المبدع. ومن أمثلة هذا النوع من المؤلفات «المرتجلات الأربع» لشوبان.
وهناك نوع آخر من الارتجال في الموسيقى الأجنبية (العالمية) يسمى «كادانْس» (أي قفْلة) cadence، وهي مقطع موسيقي تتضمنه إِحدى حركات «الحوارية» (كونشرتو) concerto أو أغنية في الأوبرا أو غيرهما، ويرتجله العازف أو المغني المنفرد solist ليبرز مهارته في الأداء. وهذا شبيه إلى حد ما بالتقاسيم في الموسيقى العربية. وكان المغنون البارعون قد استخدموا «الكادانس» في القرن الثامن عشر، ثم بدأ المؤلفون الموسيقيون، منذ عهد موتسارت Mozart، يحدّدون كتابته عزفاً أو غناءً للمؤدين المنفردين ليكون مقطعاً منسجماً مع سير مجموعة الألحان في القطعة الموسيقية الواحدة.
وقد انبعثت ظاهرة الارتجال من جديد، عزفاً على الآلات الموسيقية الحديثة، في القرن العشرين في موسيقى الجاز والروك rock [ر. الموسيقى].
المراجع
الموسوعة العربية
التصانيف
الأبحاث