حملق موظف الحكومة، فيّ مطولا، بعد أن نظر إلى الطلب الذي تقدمت به، وارتبك، قبل أن يعاود السؤال:
- تريد "باسل طلوزي بدل فاقد"؟
- نعم.
وهل أنت المدعو باسل طلوزي؟
- نعم.
ثم عاود موظف الحكومة الحملقة بي، مجددا، ليتأكد، على ما يبدو، أنني لست مختلا عقليا. ثم قام عن مكتبه، وذهب إلى غرفة رئيسه، وما هي إلا لحظات، حتى جاء المدير إلى "الكاونتر"، ليسألني:
- ما القصة .. ماذا تريد بالضبط؟
- طلبي واضح، أريد باسل طلوزي بدل فاقد؟
- يا بني كيف تكون مفقودا وأنت تقف أمامنا الآن؟
- وقوفي أمامكم لا يعني أنني لست مفقودا.
غالب المدير ضحكة مكتومة، ثم بدأ يسترسل بالحديث، معي، وكأنه يريد أن يأخذني على "قد عقلاتي".. وسألني:
- هل تعرف أين أنت الآن؟
- نعم، في مبنى الحكومة.
- جميل!.. وإذا خرجت من مبنى الحكومة هل تعرف أين تكون؟
- في مبنى الحكومة، أيضا، لأن الحكومة "على راسي"، كما تعلمت منذ الصغر، وتشاركني حتى غرفة نومي.
- يا بني ركز معي أرجوك، فليس لدينا وقت نضيعه، فأنت ترى طابور المراجعين خلفك بالمئات، الحكومة هنا حيث تقف، فقط، وليس في الخارج.
- الحكومة، في كل مكان ياسيدي.
بدأ صدر المدير يضيق على ما يبدو، وشرع الطابور من ورائي بالتململ، فنظرت خلفي، وكان الناس بالفعل يتقاطرون بالمئات... ثم عاود المدير أسئلته:
- حسنا.. سأسألك سؤالا آخر: أين تعمل؟
- أنا عاطل عن العمل منذ سنوات، جراء سوء التخطيط "الحكومي"، أي أنني "فقدت" جزءا غير يسير من عمري بسببكم.
انتفخت أوداج المدير، ثم سأل:
- هل أنت متزوج ؟
- لا.. أحببت امرأة سنوات عدة، وكنت مبهورا وسعيدا بهذا الحب، وأعتزم الزواج منها، لكنني "فقدت" المرأة التي أحب، لأنني عاطل عن العمل، و"العطالة" جزء من سوء تخطيطكم، أي أنني "فقدت" مستقبلا عاطفيا، بسببكم.
كاد المدير يقفز عن "الكاونتر"، ليصفعني، لكنه ضبط أعصابه، على ما يبدو، خشية أن يتهم بضيق الصدر، أمام المراجعين الذين بدأت أعدادهم تناهز مليونا، ثم قال:
- لا بأس. ماذا كنت تفعل قبل أن تكون عاطلا عن العمل؟
- لا شيء لأنني كنت مسجونا لسنوات عدة، تصور يا سيدي كيف "فقدت" جزءا من حياتي، جرّاء حرية التعبير والرأي، التي تتغنون بها الآن.. نعم يا سيدي لقد "فقدت" تلك السنوات بسببكم.
- ذلك عهد قديم، ونحن أبناء اليوم.
- الحق لا يمّحي بتقادم السنين، وتلك السنوات ثمينة بالنسبة لي.
- حسنا، لنفترض أننا عوضناك عن "فقدان" تلك السنوات، في زمن رجولتك، فماذا عن باقي عمرك "الثمين"، أعني الطفولة والكهولة، وزمن الحريات الجديد، الذي لم تعد تعاني فيه كما كنت تعاني سابقا، كما تدعي؟
- أولا أنا لم أعش طفولة رغيدة، كما تعتقد، ياسيدي، أنا كنت ابن أزقة مليئة بالأوبئة والحشرات، والفقر، وأنت تعرف أي مدى بلغته نسب الفقر في بلدنا، بسبب غياب العدالة في توزيع الثروة القومية، وبسبب سوء التخطيط في توفير المشاريع المدرة للدخل، عدا الفساد والرشاوى، والمحسوبيات والواسطات، أي أنني فقدت أجمل سنوات طفولتي بسببكم، أما في كهولتي، أعني حاليا، فلم أعد أستطيع التأقلم مع أي واقع جديد، لأنني أصبحت مسكونا بالرعب والخوف.. باختصار يا سيدي أنا فقدت ذاتي، لأنني فاقد لكرامتي واحترامي لنفسي، أنا حصيلة عمر "مفقود" برمته، وإذا كنتم جادين بتعويضي فأرجو أن تعوضوني عن باسل طلوزي كاملا، ولا أقل من هذا.
عند هذه الجملة لم يعد يحتمل المدير، أكثر، إذ فقد وقاره، تماما، أمام المراجعين، الذين زاد عددهم على خمسة ملايين مراجع، وصفعني وركلني خارجا، ثم نادى: "اللي بعده".
غير أن المدير ما إن حدق بالطلبات الجديدة حتى خرّ مغشيا عليه، فقد كانت كلها مروّسة بعبارة "طلب مواطن بدل
فاقد" !
باسل طلوزي
المراجع
alghad.com
التصانيف
صحافة باسل طلوزي جريدة الغد العلوم الاجتماعية