لم يعرف فن المسرح في العالم الإسلامي والعربي، لأسباب دينية، لكن ظواهر مسرحية بديلة سدت مسده، منها «الحكواتي»، و«الأراجوز»، و«صندوق الدنيا»، و«خيال الظل» Ombres Chinoises أو Shadow Theater الذي عرف في بلاد الشام باسم شخصين من شخوصه هما «كراكوز» و«عيواظ»، ولعله أهمها وأقربها إلى المسرح المتعارف عليه.
 
يتم التمثيل في «خيال الظل» على ستارة من القماش الأبيض تنعكس عليها من الخلف شخوص من الجلد الملون المخرم، بوساطة مصباح يعكس ظلالها على الستارة، وتتحرك هذه الشخوص وأعضاؤها (الرأس والأيدي والأرجل) بوساطة عصي أو قضبان خشبية أو خيوط يمسك بها «الكراكوزاتي» - كما يسمى بلهجة أهل دمشق، أو «الخليلاتي» بلهجة أهل حلب - كما يتطلب المشهد. ويرافق ذلك بحوار يلقيه «الكراكوزاتي» وحده، بألسنة الشخوص جميعاً، ويلوّن صوته كما يتطلب كل شخص، بحيث تلتصق بالشخص سمات خاصة به، يعرف بها في جميع الفصول، وتدرك من صوته، إضافة إلى شكله الكاريكاتوري.
 
يرجح المستشرقون الألمان، ومنهم جورج يعقوب، مدير معهد اللغات الشرقية في جامعة كيل، وبول كالا مدير المعهد الشرقي في جامعة بون، أن الموطن الأصلي لفن «خيال الظل» هو الهند، وبعضهم يزعم أنه جاوه، ثم انتشر في سيلان وسيام والصين. والصينيون هم الذين نقلوه إلى العالم الإسلامي بشهادة المؤرخ الفارسي رشيد الدين المتوفى عام 1388م في كتابه «جامع التواريخ».
 
ذاع صيت «خيال الظل» في البلاد العربية، في القرن الرابع عشر، وأقبل الناس، الخاصة ثم العامة، على مشاهدة فصوله، وكانت الواحدة منها تسمى «بابة»، حتى أن صاحب كتاب «فوات الوفيات» يروي أبياتاً ثلاثة تدور حول هذا الفن منسوبة إلى «وجيه الدين ضياء بن عبد الكريم»، الذي عاش في تلك الحقبة، هي:
 
رأيت خيال الظل أعظم عبرة
 
لمن كان في علم الحقائق راقي
 
شخوصاً وأصواتاً تخالف بعضها
 
بعضاً، وأشكالاً بغير وفاق
 
تجيء وتمضي بابة بعد بابة
 
وتفنى جميعها والمحرك باقي
 
ويقال إن «خيال الظل» عرف أول ما عرف في العراق. ومن بين من اكتشف أنه ألف بابات له ابن دانيال الكحال الموصلي الذي هجر العراق وأقام في مصر، وألف عدداً من البابات التي اكتشفت في مصر، وتحتفظ بها اليوم دار الكتب المصرية، لعل أشهرها بابة «لعب التمساح»، وبابة «عجيب وغريب». لكن فصول «خيال الظل» الشامية لم يعرف لها مؤلف معين، وكان أول تدوين لإحداها قد تم بمعرفة المستشرق الفرنسي إدمون سوسيه، عام 1928، ونشر نص «فصل الحمّام» الذي دوّنه بالحرف، كما كان يروى، بما فيه من ألفاظ نابية، في مجلة «الدراسات الشرقية» التي كانت تصدر في باريس عام 1937.
 
كان رواد «خيال الظل» في مرحلته الأولى في البلاد العربية من الصفوة. ويذكر أن السلطان صلاح الدين الأيوبي، والقاضي الفاضل، ثم السلطان العثماني سليم الأول قد شهدوا فصوله. لكن رواده لم يبقوا في هذه السوية، فتحولوا نحو العامة. وكانت خيمات هذا الفن تقوم بالترفيه عن المدعوين في حفلات الزواج والختان، ثم في المقاهي والحانات والأسواق. ومع أن لغة فصول خيال الظل كانت راقية في البداية، إلا أنها انحدرت وصارت نابية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وبالمقياس نفسه، كانت النصوص ذاتها تنطوي على مضامين أخلاقية، وأحياناً وطنية، حتى إن الاستعمار الفرنسي في الجزائر منع فن «خيال الظل» في المدن، فهاجر إلى القرى والجبال، وغدت نصوصه كوميدية نابية هدفها الإضحاك فقط.
 
كان فن خيال الظل، من بغداد حتى مراكش، يعمل يومياً، في ستة أو سبعة قرون. وكانت تعرض، في دمشق وحلب وبيروت وبغداد ويافا والقاهرة، كل ليلة فصول أهمها «الشحادين»، و«الفرنجي»، و«الأفيوني»، و«الحمّام»، و«خشبات»، لكن وهج هذا الفن بدأ بالانحسار ثم الأفول عندما ظهر المسرح في البلاد العربية بأشخاص ممثلين بدلاً من التمثيل بشخوص جلدية كانت لها أسماؤها: «كراكوز» و«عيواظ»، و«المدلل» و«ميمونة»، و«وأميئو» وغيرها، والتي كانت تمد الناس بمتع طاغية.
 

المراجع

الموسوعة العربية

التصانيف

الأبحاث