آنا بالاسيو*
حتى وقتنا هذا، وباستثناءات قليلة، دأب الغرب على تغذية طائفتين متميزتين من المتخصصين في السياسة الخارجية: مجتمع التنمية والمجتمع الديمقراطي. وفي أكثر الأحيان، كانت الصلة بين المجتمعين ضئيلة أو لا وجود لها على الإطلاق، إذ كان المتخصصون في التنمية يتعاملون مع الأنظمة الحاكمة الديكتاتورية أو الديمقراطية بنفس القدر من الارتياح، على اعتقاد منهم أن خلق الازدهار والرخاء يتسنى على أفضل نحو من خلال التركيز بشكل كامل على القضايا والمؤسسات الاقتصادية.
وكان للعواقب المترتبة على هذا النهج صدى خاص في العالم العربي اليوم. ولكن كما أظهرت المناقشات الأخيرة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن الربيع العربي، فلن تكون البلدان الناشئة الكبرى هي القادرة على التأثير على الأحداث الجارية في المنطقة. فالبرازيل لم تنبس ببنت شفة تقريباً في استجابة للاضطرابات التي تجتاح المنطقة، في حين لا ترغب روسيا والصين في تبني فرض عقوبات على ليبيا في ظل الحكومتين المستبدتين في البلدين.
والواقع أن كل هذا يشكل فرصة فريدة بالنسبة للاتحاد الأوروبي لدعم انتقال جيرانها من الجيشان الثوري إلى الحكم الديمقراطي. وفي الوقت نفسه، يتعين علينا أن نعمل على تعزيز التقدم الذي تحققه أنظمة أخرى في المنطقة في اتجاه الديمقراطية الشاملة. بل إن الاتحاد الأوروبي يشكل شريكاً طبيعياً لجيرانه في هذا المسعى.
فمنذ إطلاق عملية برشلونة في العام 1995، تعرضت سياسة الاتحاد الأوروبية-المتوسطية للانتقادات بسبب عجزها عن الربط بين المساعدات المالية والإصلاح الديمقراطي، ولأنها أعطت الأولوية لمخاوف أوروبية مثل الهجرة، والأمن، والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب. وفي الوقت نفسه، همشت سياسة الاتحاد الأوروبي أولويات جنوبية واضحة، مثل فتح الأسواق الزراعية وأسواق المنسوجات الأوروبية. وكانت النتيجة تخلف الرؤية الرسمية للسياسة الأوروبية المتوسطية كثيراً عن تحقيق أهدافها الأصلية.
يتعين على أوروبا أن تحول تركيزها على الهجرة والأمن إلى السياسات التي تعكس الأهداف الأصلية لإعلان برشلونة. كانت الأهداف المركزية للسياسة الأوروبية المتوسطية تتلخص في تعزيز "الشراكة الشاملة" والإصلاح السياسي، وخلق "منطقة مشتركة من السلام والاستقرار"، إلى جانب منطقة التجارة الحرة الأوروبية المتوسطية.
فضلاً عن ذلك، فإن آلية صندوق "ميدا" الموحدة كانت تشتمل بشكل حاسم وعلى وجه الدقة على المبادرة الأوروبية للديمقراطية وحقوق الإنسان. والواقع أن هذا الربط بين الأمن والديمقراطية والتنمية البشرية تعطل منذ ذلك الوقت، وبات من الواجب استعادته من خلال الاستثمار في الحكم الرشيد، والتنمية الإقليمية، والتعليم.
لقد تطورت السياسة الأوروبية المتوسطية في العام 2004 إلى إطار سياسة الجوار الأوروبي، ثم في العام 2007 إلى آلية سياسة الجوار الأوروبي التي حلت محل "ميدا" باعتبارها آلية التمويل الرئيسة لدى الاتحاد الأوروبي للسياسة الأوروبية المتوسطية. وبموجب هذا تم وضع تمويل حقوق الإنسان ضمن البرنامج الإرشادي الوطني، الذي يضم سبع عشرة دولة: عشر دول في الجنوب وسبع دول في أوروبا الشرقية. ورغم أن الحكم الرشيد وحقوق الإنسان ظلا ضمن الأهداف المعلنة لسياسة الجوار الأوروبي، فإن الاتصالات الرسمية التي أجرتها المفوضية الأوروبية تبين أنها تؤكد على الأمن ومراقبة الحدود.
وعندما أعيد إطلاق السياسة الأوروبية المتوسطية في العام 2008 في إطار الاتحاد من أجل المتوسط المؤسس حديثاً بهدف إعطائه قدراً أعظم من التأكيد السياسي، كانت النتيجة ممارسة نوع من "الواقعية" التي أدت إلى تفاقم ضعف السياسة الأوروبية المتوسطية الأصلية. وعلى الرغم من اللغة الطنانة فإن الاتحاد من أجل المتوسط ليس أكثر من صدفة فارغة. ويرجع هذا جزئياً إلى التوقيت المؤسف: إذ تزامن إطلاق الاتحاد من أجل المتوسط مع اندلاع حرب غزة، فضلاً عن تشابكه في تعقيدات العلاقات العربية-الإسرائيلية. ولكن المبادرة فشلت أيضاً في اكتساب الزخم الكافي بين القادة السياسيين.
إن تنفيذ الرؤية البعيدة المدى لعملية برشلونة يفرض على السياسة الأوروبية المتوسطية أن تعيد النظر في الطريقة التي توزع بها دعمها المالي، وإعادة التوازن إلى التمويل الذي تقدمه إلى جيران الاتحاد الأوروبي في الشرق والجنوب، والتركيز بصورة أكبر على الديمقراطية، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان.
والواقع أن التعليم يظل يشكل مجالاً رئيساً حيث يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يساهم في تنمية جيرته الجنوبية، ولو كان ذلك فقط لأن الشباب يشكلون أغلبية متنامية من السكان العرب. ورغم أن العديد من الدول العربية كانت تفتتح مدارس وجامعات جديدة، وتسمح للمزيد من المؤسسات التعليمية الخاصة بالازدهار، فإن نوعية التعليم في المنطقة ما تزال بعيدة عن تحقيق المستوى المرغوب.
فما يزال الاهتمام يتضاءل بالفضول البحثي، والتفكير النقدي، والتحليل الموضوعي إلى حد كبير. وكما زعم المفكر الأردني ووزير الخارجية الأسبق مروان المعشر، فإن الدولة والتفسيرات الدينية للتاريخ والعلوم والقيم السياسية تغرس غرساً في أذهان الطلبة العرب. ومؤخراً أشار ويلفريد مارتنز، رئيس حزب الشعب الأوروبي في البرلمان الأوروبي ورئيس وزراء بلجيكا السابق، إلى نفس النقطة تقريبا: "إن الغرب لا يخوض حرباً ضد الإسلام. والمسيحية ليست في حرب ضد الإسلام. والديمقراطية ليست في حرب ضد الإسلام. ولكن أياً من الثلاثة لا يتوافق مع التفسير المحدد الذي يزعم أن الكتاب المقدس يصلح كأساس لبناء الدولة".
والواقع أن مصر من بين البلدان العربية المتلقية للدعم المالي من سياسة الجوار الأوروبي هي الوحيدة التي وجهت نسبة عالية -نحو 50 %- من الدعم نحو التعليم. وفي كل الأحوال، فإن إنفاق أوروبا على التعليم في المنطقة مشتت بين برامج بين إقليمية وبرامج وطنية وأخرى بحثية، وهو ما يجعل من الصعب أن نرى كيف قد يتسنى لنا أن نقيس مدى فعالية هذه الأموال.
إن أوروبا تواجه الآن قرارات رئيسة تتعلق بكل من قيمها ومصالحها في العالم العربي، وقدرتها على التوفيق بين أهدافها في الأمدين القريب والبعيد. والواقع أن الاستثمار في البنية الأساسية والإصلاح الاقتصادي يشكل أهمية بالغة بالنسبة للتنمية في منطقة البحر الأبيض المتوسط في المستقبل، ولكن هذا لا يكفي لتحويل المنطقة من دون التركيز بالتوازي على الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان والتعليم.
ولكي يتسنى للاتحاد الأوروبي أن يحقق كلاً من الهدفين فيتعين عليه أن يربط بين برامج الاستثمار والمساعدات التي يقدمها وبين تحقيق تحسن ملموس في إصلاح النظم التعليمية في مختلف أنحاء المنطقة.
بروجيكت سنديكيت
المراجع
janoubia.com
التصانيف
صحافة بروجيكت سنديكيت جريدة الغد الآداب