العالم العربي والاسلامي يشهد خطاباً متبادلاً بين الأطراف السياسية والمكونات الاجتماعية، يتسم بالتحريض الشديد والمبالغة في استثارة كوامن الكره والبغض الغرائزي، والمبالغة في الشيطنة، والتوصيف المستفز الذي يؤدي الى القطيعة الصارمة، والجفوة المتزايدة، ويعمل على خلق فجوة هائلة، وجدران فولاذية صلبة بين مكونات المجتمع تستعصي على الاختراق.

هذه المبالغة الشديدة في التحريض أدت الى ايجاد بيئة مريضة تنفي امكانية التعايش بين الفرقاء، فضلاً عن امكانية التعاون في حماية المصالح المشتركة، وتنفي امكانية اللقاء والمشاركة في حل المشاكل المستعصية التي تواجه المجتمعات العربية وتعرقل عملية البناء والنهوض، وتعطل كل مشاريع الاصلاح الضرورية على جميع الأصعدة وفي كل المجالات.

لم يتوقف خطاب التحريض والكراهية عند هذا الحد، بل تعدى ذلك الى استعمال لغة القتل والدّم والتصفية الجسدية، وبدأت تظهر بوادر مشاريع سياسيّة على قدر كبير من الخطورة تحمل روج الإبادة الجماعية، والاستخدام المفرط للقوة، الذي يؤدي الى التدمير الجماعي والفتك بالتجمعات المدنية، دون تفريق بين رجال ونساء وأطفال..

ما يحدث في العراق وسورية لا يخرج عن هذه الصورة البشعة، ويمثل ترجمة واقعية لحرب مجنونة بلا أفق وبلا نهاية، وهناك مجتمعات عربية أخرى تحت الخطى سريعاً نحو هذا المشهد المرعب، عن طريق اطلاق العنان لخطاب الكراهية المجنون، الذي تخطى كل الضوابط والحدود الأخلاقية والدينية والانسانية، من خلال استعمال كل قواميس اللغة الاتهامية والتخوينية والخروج من الأطر الآدمية، واستدعاء التاريخ وكل حوادث الفتنة وجراحات الماضي السحيق من أجل إحداث مزيد من التعبئة، وزيادة مخزون الألم المفضي الى الانفجار البركاني الرهيب المليء بشظايا التعصب والحقد الأسود .

قنوات فضائية، ومواقع الكترونية، وصحف ومجلات، وكتب وروايات كلها ترمي عن قوس واحدة، تتنافس في تحويل البشر الى قنابل متفجرة والغام تسير على الارض، لا تراعي حرمة النفس البشرية، ولا تتوقف عند قدسية الأماكن أو هيبة دور العبادة، ولم يتوقف شلال الدم في رمضان أو في الأعياد أو في الصلوات أو الجمع والجماعات

ما الذي ضرب هذه الأمة التي يقول قرآنها: « مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا «

كيف نسيت هذه الأمة أو تناست رسالتها القائمة على تحرير الانسانية، ومحاربة التمييز العنصري والقضاء على كل أنواع التفرقة القائمة على اللون أو الدين أو المذهب، « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ».

وقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: « أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى.».

«ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل ...» وعمل الرسول صلى الله عليه وسلم على القضاء على كل عوامل التباغض، والتحاسد والتناجش والسب والشتم وكل ما يثير الفرقة بين افراد المجتمع ومكوناته.

من ينتسب الى الاسلام، لا يجوز له أن يمارس اللمز والهمز والحط من كرامة الآخرين لأن الله يقول: « وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» ولا يجوز له أن يمارس السخرية من البشر، لأن الله يقول: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ»

يقول الرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم: « من أعان على قتل مؤمنٍ بشطر كلمةٍ؛ لقيَ الله –عزَّ وجل- مكتوبٌ بين عينيه: آيِسٌ من رحمة الله «

نحن بحاجة الى صياغة ميثاق وطني يحرّم الاساءة ويجرّم التحريض، ويمنع خطاب التحريض والكراهية، ويحول دون إحداث الفتنة أو التفرقة الاجتماعية، بالكلمة أو الكتابة أو الصورة، من أجل الاسهام الجماعي في بناء المجتمع النظيف والدولة القوية الناهضة، التي تقوم على التعاون والتكافل ، والاحترام المتبادل، وينبغي تعليم الأجيال الجديدة أساليب التعايش وتقبل الآخر منذ سن الروضة الى سن التخرج من الجامعة، ووضع المناهج الأخلاقية التي تحفظ النسيج الاجتماعي نظيفاً قوياً منيعاً عصياً على الفرقة والتنازع.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   الدكتور رحيل محمد الغرايبة   جريدة الدستور