سيسطع «قمر الحصادين» في سماء الأردن مساء اليوم الأربعاء ويضيء عتمة الليل حتى مطلع الفجر، وسيكون بدراً مكتملاً، متلألئاً وجميلاً ورائعاً، كما أفاد الفلكي عمار مجاهد، وسيكون متميزاً في هذه الليلة بضوئه الهادئ المنتشر فوق السهول والهضاب.

لقد شدني هذا الوصف للقمر، وذهب بي بعيداً إلى سنوات الطفولة حيث كان هناك حصادون يغنون للقمر، وهم يعملون مناجلهم في قامات السنابل المنتصبة بقوة، والتي تتمايل مع النسائم الممزوجة بأصوات الجنادب، ونقيق الضفادع القادم من الوادي بغزارة، ويتجول الليل في السهول الغورية وعلى سفوح الجبال المطلة عليها؛ إلى مهرجان في غاية الروعة والجمال ،تمتزج فيها أصوات الحصادين وأهازيجهم، مع أصوات الطبيعة المتعددة في سيمفونية عذبة تأخذ بالألباب.

القمر له طلة رائعة على البيادر الرابضة على السهل المنبسط المرتفع قليلاً ليجتذب أسراب الريح القادم من الغرب، وتزداد طلته روعة عندما يبسط نوره البارد على مواكب الصبية ،الذين يتراكضون حفاة فوق القش الندي ويمارسون ألعاب الليل وطقوسه، ويتضاحكون مع البدر وهم يبحثون عن أزير الجنادب المختبئة بلا جدوى.

امرأة متلفعة بأثواب سوداء فضفاضة ،تحمل فوق رأسها «صينية» من القش، فيها بضعة أرغفة طابون ساخنة، «وإبريق» شاي لفحته النار حتى اصبح اسود اللون قاتما، وأكواب زجاجية تخرج رنينا عذبا عند اللقاء مع كل خطوة، مع صحن لبن شديد يعلوه قليل من الزيت، وقرص عجة أعد بطريقة شهية، تستطيع أن تشم رائحته عن بعد، وبعض رؤوس من البصل الزين، أخذت طريقها نحو نواطير البيادر، وفي الطريق رجل يبحث عن بقرة ضلت طريقها عن القطيع، وهناك حمار هارب يبحث بلهفة عن شيء ما، ورجال يتسامرون حول مذياع صغير يحدثهم عبر برنامج محبوب بعنوان «مضافة أبو محمود»، ومشاهد أخرى كثيرة تستعصي على العد.

قمر الحصادين سيشرق مبكراً هذه الليلة، ولكنه سيغيب حزيناً مكتئباً، عيناه تفيضان بالدموع؛ لأنه سيبقى يبحث طول الليل عن حصادين هنا أو هناك، وسيتابع مسيره عبر الهضاب والسهول ،ويطل على المناطق المعتمة في الأودية وعلى أكتاف الجبال والتلال، لعله يعثر على حصاد أو حراث خلف الفدان يريد أن يستثمر في ضوء القمر، ولكنه لن يجد

ذهبت أزمان الحصادين والحراثين، واختفت البيادر واندثرت أهازيجهم، وتبددت أصوات مناجلهم، ولم نعد نسمع أصوات الجنادب أيضاً، وهاجرت الطيور والبلابل، وتبدلت مهرجانات الصبا وتعطلت لغة الكلام، ولذلك لم يعد القمر قمراً للحصادين وأصبح يشرق ويغيب بلا اكتراث أو مناجاة من أحد..

قد يقول قائل هذا حنين للفقر والأمية والفدان والمنجل، والجوع والخوف، والشقاء، والكد والكدح والعيش في بيوت الطين والخرابيش...، لقد تغيرت الحياة والأدوات، ولم تعد هناك حاجة للبيادر والمناجل ولم تعد هناك حاجة لضوء القمر اصلا..

قد يبدو هذا الكلام وجيهاً من جانب دون جانب، ولكن الحقيقة المرة، أننا أصبحنا غير قادرين على إطعام أنفسنا ولا كسوة اجسادنا العارية حيث نستورد القمح من بلاد الأجانب، ونستورد لباسنا، ومياهنا وغناءنا وضوءنا من خارج الحدود، وأصبحنا عالة على البشر.

مرة أخرى يجب أن نعلم أن التقدم الحقيقي ليس بزيادة القدرة على الاستهلاك للمستوردات والمنتوجات القادمة من بلاد الغربة، بل إن التقدم والتمدن والتحضر يكمن بتنمية قدراتنا على الإنتاج، وزيادة الإمكانية في الاستثمار في مواردنا، وزيادة الفاعلية لدى أجيالنا وجموع الشباب نحو مزيد من الإنتاج، ومزيد من الاعتماد على الذات.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   الدكتور رحيل محمد الغرايبة   جريدة الدستور