كانت عمان في أوائل القرن المنصرم أكثر جمالاً وأصالة، وكانت تحتفظ بهوية عمرانية مميزة،حيث ما زالت أبنيتها القديمة في البلد وفي الجبال المحيطة والقريبة من مركز البلد، تعبر عن هذا اللون الأصيل والمحبب ، مثل «اللويبدة»، وجبل عمان وجبل الحسين، التي ما زالت تحتفظ بعبق الذكريات الجميلة، من حيث الطراز المعماري ونوع الحجر، والساحات والأفنية الداخلية، وشكل الأبواب والشبابيك المعقودة، والمداخل، والأدراج والأشجار والورود والمحال التجارية، والمقاهي.
بعض هذه الأبنية القديمة تعرضت للهجران، حيث هجرها أصحابها الى مناطق أكثر حداثة، وأصبحت تعاني من الإهمال والكآبة، وبعضها تم نقضها ونقل حجارتها، وبعضها تم استبدالها بأبنية جديدة، وبعضها الآخر بقيت تحتفظ برونقها، بعد الترميم والصيانة، وإدخال بعض التعديلات، وتم تحويل بعضها الاخر الى متاحف، أو منتديات فنية وثقافية.
عمان في السنوات الماضية تعرضت الى تطويرات وقفزات هائلة غير منضبطة، ولا تحكمها نظرة مدروسة، ولا رؤية محددة قائمة على فلسفة عمرانية، ولا تحكمها منهجية مقصودة، ولذلك تعرضت للتشويه، وأصبحت الأبنية الجديدة تحمل سمات التباين الشديد والتفاوت الواسع، الذي يبعث على التشتت وينم عن ضياع الهوية، ولذلك لا غرابة أن يتم تصنيف عمان أنها تأتي بالترتيب الثالث من حيث البشاعة على مستوى عواصم العالم.
كان ينبغي لأمانة عمان أن تعمل على إنجاز رؤية مدروسة ومتفق عليها لهوية عمان الحضارية، وأن تعمل على حفظ كنوزها وآثارها وأبنيتها، وأن تقوم بصيانتها وترميمها بطريقة هندسية علمية، بحيث لا نجعل منها مكاره صحية وأماكن مهجورة تبعث على الحزن والكآبة من جهة، وفي الوقت نفسه العمل على ضبط البناء الجديد ضمن نسق معماري واضح الطراز والمعالم ،من أجل الاحتفاظ بهويتها الثقافية وملامحها الحضارية المميزة.
الحفاظ على الهوية الثقافية والملامح الحضارية لا يتعارض مع الحداثة ولا يتناقض مع التطوير ومسايرة العصر، وإنما يمكن الجمع بين الأصالة والمعاصرة، مع الالتزام بالنسق والطرز المعمارية المناسبة، التي تتكيف مع المحيط، ولا تحدث تشوها بصرياً؛ يؤدي الى إيذاء المشاعر
فضلاً عن اغتيال التاريخ، وطمس الآثار، ووأد الهوية الثقافية.
دور أمانة عمان وعمدتها في حفظ روح عمان وجوهر تاريخها هو الدور الأساسي والمستمر، بحيث لا يتم السماح بالعبث، والقرارات الارتجالية، والتسيب المفضي الى آثار خطيرة ونتائج مروّعة لا يمكن تفاديها ولا يمكن اصلاحها.
والمطلوب أن يتم الحفاظ على البقية الباقية من معالم عمان القديمة، وأن يتم وضع خطة عملية سليمة للصيانة والترميم بالاستعانة مع أهل الاختصاص وأصحاب الخبرة في المجالات المعمارية والثقافية، وفي مجال التاريخ والآثار، ووضع حد للسطو على المدينة وأصالتها.
يمكن للأمانة أن تطلق العنان للحداثة والتطوير في الأحياء الجديدة ضمن معالم محدودة وطرز معمارية متشابهة، للحد من التباين الذي يجري بالمدينة، ويلحق بها البشاعة المنفّرة، ويجعلها مدينة لقيطة، بلا هوية، وبلا تاريخ، وبلا ذاكرة.
حفظ الأصالة هو تعبير عن حفظ التراث والتاريخ، الذي يمثل الطريق الصحيح لحفظ الهوية الثقافية والحضارية، والذي يعد المؤشر الأبرز والأشد وضوحا عن معالم الولاء والانتماء للوطن والأمة، ومشروعها الحضاري الممتد في عمق التاريخ والمتصل بالحاضر والمستقبل، لأن الأمة التي لا تاريخ لها لا حاضر لها، ومن لا حاضر له ولا تاريخ أنّى له أن يمتلك المستقبل.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة الدكتور رحيل محمد الغرايبة جريدة الدستور
|