حدث الهجرة النبوية شكل معلماً بارزاً في تاريخ العرب والمسلمين ، حيث وضعهم على عتبة صناعة التاريخ ، وجعلهم يبدأون خطواتهم الاولى الواثقة في تسطير صفحات مشرقة في السجل الحضاري الانساني ، وبدأوا صياغة نموذجهم الخاص بهم على صعيد الإنجاز العملي الملموس .
من أهم الدروس التي يجب أن تترسخ في أذهان العرب والمسلمين أن النجاح يحتاج الى جهد وجهاد ، وبذل تضحية ، وعزيمة فولاذية لا تلين ومواظبة لا تعرف الملل ، وبحث دائم لا يتوقف عن مصادر القوة ، واعمال العقل للوصول الى اعلى درجات الحكمة والصواب في اتخاذ القرارات بالاضافة الى توقع المخاطر والصعوبات ، ووضع الخطط للتغلب عليها ، ويؤخذ هذا الدرس من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم في الاعداد للهجرة ، وفي طريقة تنفيذها ، وما أحاط بها من ظروف وعوائق ، بمعنى أن الرسول عليه الصلاة والسلام بذل كل جهده في الاحتياط والأخذ بالأسباب رغم انه مؤيد بالوحي ، ومحاط بالعصمة الالهية ، مما يقتضي الوصول الى نتيجة قطعية تفيد بأن الانتساب المجرد للفكر الاسلامي أو مجرد رفع الشعار لا يضمن النصر والتمكين .
حاول الرسول صلى الله عليه وسلم أولاً اختيار الهجرة الى الحبشة ، بوصفها بلاد محكومة من النجاشي الذي كان يدين بالنصرانية ، وقد عرف عنه العدل والتسامح ، كما كان هناك محاولات سابقة باتجاه البحث عن أماكن أخرى أكثر أماناً من مكة التي تشكل خطراً يهدد حياة النبي واصحابه ويهدد مستقبل الفكرة ، وباءت كل هذه المحاولات بالفشل ، ونجحت فكرة الهجرة الى (يثرب) التي سميت فيما بعد بالمدينة).
هذا يجعلنا نؤكد على أن فكرة الحلول الجاهزة ليست صحيحة ، ففي كل وقت وفي كل ظرف يجب أن يبذل الناس أقصى وسعهم وأن يبذلوا كامل جهدهم في التفكير واعمال الذهن ، وتوطين النفوس على تحمل المشاق ومواجهة الصعاب وتوقع الفشل .
أثناء الهجرة توجه الرسول وصاحبه ابو بكر الى الجنوب ، وليس الى الشمال باتجاه المدينة ، ومكثوا عدة أيام في غار ثور ،الذي يقع الى جنوب مكة ، ريثما تنكسر حدة الطلب ويخف زخم البحث القرشي المندفع نحو المدينة ، بالاضافة الى التعاقد المسبق مع أحد رعاة الغنم ، الذي تكفل باخفاء الأثر أولاً وتأمين الغذاء اللازم لهما من خلال حليب الشياه.
كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم استأجر رجلاً مشهوراً بمعرفة الصحراء وطرقها ، حتى يؤمن لهما طريق النجاة ، خارج إطار المعرفة العادية المتأنية لعامة الناس ، من أجل تأمين الوصول عبر طرق بديلة لا يهتدي اليها صيادوا المكافآت .
يقول الله تعالى : «وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ، ومن ينقلب على عقبيه ، فلن يضر الله شيئاً ، وسيجزي الله الشاكرين «.
هذه الأية تفيد بان النبي رجل من الناس ، يصيبه ما يصيب بقية البشر ،فقد يقتل ، وقد يموت ، ولن يحول دون موته كونه نبياً ورسولاً / وذلك من أجل توقع الأسوأ ...
في غزوة أحد ، تعرض المسلمون لهزيمة قاسية ، وهم الصحابة وفيهم الرسول القائد ، صلى الله عليه وسلم ، وقد قتل منهم سبعون شهيداً ، منهم حمزة ومصعب وأنس بن النضر ، وخيار الصحابة ، والمفارقة العجيبة أن خصومهم كانوا كفاراً ومشركين من عبدة الأوثان ، وعندما تساءل الصحابة عن سر هذه الهزيمة كان الجواب القرآني يمثل منهجاً دائماً الى يوم القيامة «أو لما أصابتكم مصيبة ، قد أصبتم مثليها ، قلتم أنّى هذا ، قل هو من عند أنفسكم « .
وذلك ليعلم المسلمون في كل وقت وفي كل مكان أنهم معرضون للهزيمة والفشل بسبب عدم القدرة على الأخذ بالاسباب ، وعدم اتخاذ كافة الاجراءات التي تكفل القرارات الصائبة ، والحكيمة ، او عندما يقصرون باعداد أنفسهم كما يتطلب الاعداد ، او عندما يعجزون عن تمثل المقاصد الصحيحة للدين ، أو عندما يعجزون عن الخلوص من حظ أنفسهم.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة الدكتور رحيل محمد الغرايبة جريدة الدستور