يستحق الشعب التونسي التحية بمناسبة إقرار دستور الحرية الجديد، الذي تم بتوافق جميع القوى السياسية والمكونات الاجتماعية والإتجهات الفكرية، حيث تجاوز العقبة الأكبر أمام عبور القوى السياسية جميعاً لهذه المرحلة الانتقالية الحرجة بطريقة هادئة وآمنة بعيدة عن الانزلاق نحو العنف والفوضى.
الدستور التونسي الجديد يستحق الإشادة، ويمثل تجربة عربية رائدة وغير مسبوقة في إقرار دستور جمعي عبر مجلس تأسيسي منتخب يمثل الشعب التونسي تمثيلاً حقيقياً، إذ لم يتم فرضه عبر انقلاب عسكري، أو ثورة مزيفة، ولا عبر الدبابات والمجنزرات العسكرية، ولم يتم التوقيع عليه على جثث الموتى، ولاعبر تغييب الأحرار في المعتقلات والزنازين، ولم يكن الاحتفال به مصحوباً (بالبروبغاندا ) الإعلامية الخادعة والمضلّلة الإعلامية للشعوب المنكوبة .
يتميز الدستور التونسي بتأسيسه على مبدأ التوافق والمشاركة، حيث لم يتم استثناء الفئات الصغيرة التي لم تستطع الفوز بأي مقعد في الهيئة التأسيسية، كما أنه استطاع التوفيق بين قيم الإسلام الحضارية ومنظومة حقوق الإنسان، وكل معاني التحضر والحداثة والاستفادة من التجارب الإنسانية المعاصرة، كما أن الدستور أعلى من شأن الحرية والديموقراطية ومبدأ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء والحوكمة الرشيدة، وارتكز على مبدأ المساواة بين المواطنين، والمساواة بين الرجل والمرأة.
التوافق على الدستور التونسي، ما كان ليتم لولا الجهود الكبيرة والمقدرة من القوى التونسية الكبيرة التي تحالفت على قيادة المرحلة، وعلى رأسها حزب النهضة برئاسة المفكر الإسلامي الفذ راشد الغنوشي، حيث حصل الحزب على الحصة الكبرى في المقاعد، ومع ذلك تنازل عن حقه في تشكيل الحكومة من أجل اقناع الشعب التونسي بأن تونس فوق جميع القوى وأكبر من كل الأحزاب، وأن الهدف هو تحرير الشعب التونسي من الدكتاتورية والاستبداد والفساد، وليس الهدف هو الاستيلاء على السلطة أو الاستئثار بالمناصب، كما حاولت الأبواق الإعلامية والمرتزقة تصوير الإسلاميين وتشويه صورتهم .
تحية لرئيس الجمهورية المنصف المرزوقي، الذي أثبت أنه شخصية كبيرة بحجم طموحات الشعب التونسي، ولم يستجب لكل الإغراءات والمؤامرات التي حاولت إغواءه من أجل إفشال التجربة التونسية، وتخريب جهود التوافق المضنية التي بذلها التونسيون المخلصون، واستطاع قيادة المركب عبر هذه اللجّة المتلاطمة من أمواج العابثين والمشككين.
وتحية أخرى لمصطفى بن جعفر رئيس الهيئة التأسيسية الذي استطاع ان يشكل الركيزة الثالثة للقِدر التونسي، واستطاع بالتعاون مع الحزبيين السابقين تخطي المرحلة وتفويت الفرصة على القلة المشاغبة التي تتقن إشاعة الفوضى، وتخريب الأمن والعمل في الظلام.
هناك جهود أخرى أسهمت في نجاة القارب التونسي، ومنها الاتحاد التونسي للشغل، وقوى سياسية ومجتمعية مخلصة، من كل الأفكار والإتجاهات تضامنت من أجل إنجاز الخطوات الأولى التي تمثل الأكثر صعوبة ومعاناة في مسيرة الإنجاز والنهوض الطويلة القادمة.
الجيش التونسي يستحق التحية، حيث استطاع ان يثبت أنه قوة محايدة وغير منحازة لأي قوة سياسية أو اتجاه محدد، بل هو جيش الدولة وجيش المجتمع كله، وهو يتحمل مسؤولية حفظ تونس كلها وحماية الشعب التونسي كله، ولم يتدخل من أجل إنتصار طرف على طرف.
وأخيراً ينبغي أن لا ننسى أن الشعب التونسي شعب مثقف وهو في مقدمة الشعوب العربية من حيث مستوى التعليم وانخفاض مستوى الأمية، وهذا له دوره الكبير والمقدر في انجاح التجربة الديمقراطية الوليدة، فالشعب التونسي يستحق التحية والتقدير من كل العرب ومن كل أحرار العالم.
نتمنى للشعب التونسي أن يمضي في مسيرة الحرية والديمقراطية الصحيحية قدماً إلى الأمام، ونتمنى للقوى التونسية أن تحافظ على هذه التجربة الوليدة، وأن تكون نموذجاً يحتذى لكل الشعوب العربية التواقة للحرية والديمقراطية، وأن يفوتوا الفرصة على ازلام الفساد وخفافيش الظلام وأقلام السوء ومتلقي المال الحرام، الذين لا يستطيعون العيش إلاّ في ظل الاستبداد والفوضى، ولا يتقنون إلاّ فن الهدم والرقص على الجراح.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة الدكتور رحيل محمد الغرايبة جريدة الدستور