عندما هممنا بركوب القطار في إحدى العواصم التي تفوقها عمّان جمالاً وتنظيماً وتفوقها في بنيتها التحتية وخدماتها ، همست في أذن صديق الطفولة الذي غدا مسؤولاً كبيراً ، يا ليت لدينا مثل هذه القطارات في بلدنا ، وآن الأوان أن ننهي مشروع القطار الخفيف بين عمّان والزرقاء ، ليكون نواة شبكة قطارات تغطي المملكة ومن ثم ترتبط بشبكة مع الدول العربية الشقيقة.

أعتقدت أنني استرعيت اهتمام الصديق ، فاسترسلت في الموضوع ، وأخذني الحماس ، فقلت له: "من العيب عدم وجود شبكة قطارات تغطي مناطق المملكة" ، ومن باب المداعبة ذكرته بأن اختيار عمّان كعاصمة للمملكة جاء نتيجة وجود محطة سكة حديد ، وأن خط الحجاز كان يقطع المملكة قبل أكثر من مائة عام ، وبيّنت له أهميّة المشروع من تسهيل حياة النّاس ، وتخفيف الاختناقات المرورية ، وتخفيض فاتورة المحروقات ، وسهولة انتقال السلع ، وتحسين مستوى معيشة المناطق التي سيصلها القطار ، وحماية البيئة.

وضربت له اليابان مثلاً ، حيث يسكن الناس على بُعد يزيد عن الثلاثمائة كيلومتر عن عملهم ، ويذهبون يومياً إلى أعمالهم بفضل شبكة من القطارات تؤمّن وصولهم خلال ساعة ، وكما ينتقل الناس تنتقل الثروات معهم ، فما يقبضونه في العاصمة يصرفونه في القرى التي يسكنونها ، فتنتعش هذه المناطق بدلاً من أن تتركز الأموال في العاصمة.

نظر إليّ صديقي وكأنني غير موجود ، وأجابني بغرور بجملة واحدة: "لقد درسنا هذا المشروع ووجدناه غير مجدْ، ،"، وتمثل أمامي بقول الشاعر القروي:

إذا عصف الغرور برأس نمر

توهّـم أنّ منكبه جناح

توقّعت أن يجيبني بأيّة إجابة إلاّ هذه ، اعتقدت أن يجيبني أنّ هذا المشروع من أهم أولوياتنا ، إلاّ أننا لا نملك التمويل الكافي ، أو على أقل تقديرْ أن يبدي نوعاً من التعاطف مع آلاف المواطنين الذين ينتظرون في عز الحر أو البرد وسائل الماصلات العامة غير الفعالة ، أو سائقي أكثر من مائة وخمسين ألف سيّارة تأتي إلى عمّان يومياً من المحافظات.

واحدة من المشاكل التي يواجهها القطاع العام ، هي إحدى التقليعات الحديثة التي بموجبها سلّمت إدارة القطاع لأشخاص جاؤوا من القطاع الخاص ، والاعتقاد السائد أن هؤلاء الأشخاص

لديهم من المحرك والفكر والتعليم ما يلزم لإدارة القطاع العام ، ولديهم كم كبير من التجارب تأتي من قراءة المقالات في المجلات الاقتصادية المتخصصة أو البرامج الوثائقية عن تجارب الشركات الكبرى ، ويريدون نسخ نفس المفاهيم والأسس القادمة من الغرب وتطبيقها محلياً مع اختلاف العادات والتقاليد والبيئة ، وأن النظرة إلى موظفي القطاع العام على أنهم غير قادرين على إدارة هذا القطاع ، وليست لديهم الإمكانيات اللازمة أو الارادة الكافية للنهوض به.

وغاب عن ذهننا أن مديري القطاع الجدد يديرونه كما يديرون مصالحهم وشركاتهم ، وكلنا يعرف أن هنالك فرقاً أساسياً بديهياً بين القطاعين ، فالقطاع الخاص يهدف أساساً إلى تعظيم الأرباح ، أما القطاع العام فيهدف أساساً إلى تقديم خدمة لمواطنيه ولو بكلفة مرتفعة ، وشتان ما بين هذا وذاك.

لذلك ظهر جيل من المديرين يقول أن المشروع الفلاني غير مجدْ حالياً أو لا يحقق الدخل الكافي للدولة ، أو من المفروض أن نخفض الإنفاق الحكومي الرأسمالي بشكل كبير طالما أننا نمر بظرف صعب ، وكلنا يعلم أن الغاية تبرر الوسيلة في القطاع الخاص طالما أن أولوياتنا تعظيم الأرباح ، ويصبح المواطن كالموظف مجرد قطعة شطرنج في عجلة الأعمال.

وفي رأيي أن استمرار هذا النهج سيضيع بُوصلة القطاع العام ، ويفقده جوهره فلا هو قطاع عام ولا خاص ، فالمفروض أن أبناء القطاع العام مؤهلون أكثر لإدارته إذا أُعطوا الفرصة والتدربيب الكافيين ، لأن أهل مكة أدرى بشعابها.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   اسماعيل الشريف   جريدة الدستور