فلما كففنا الحرب كانت عهودهم كلمح سراب في الملأ متألق أشعر بالأسى على الرئيس الفلسطيني محمود عباس كلما فكرت في الضغط الكبير الذي يتعرض له من قبل الولايات المتحدة من أجل الذهاب إلى المفاوضات المباشرة مع الصهاينة. ويدرك مهندس أوسلو ، والوجه الفلسطيني "المعتدل" وصاحب مبدأ "المفاوضات هي الخيار الوحيد" ، يدرك هذه المرة أنه أمام موقف صعب ، فهو حتما يذكر أن نتنياهو أعلن قبل عشرة أعوام "لا أرض مقابل السلام" ، والقدس خارج نطاق التفاوض ، ووقف الاستيطان غير قابل للنقاش ، أساساً هُم ليسو جديين في موضوع السلام إلا مجاملة لحليفتهم الولايات المتحدة. كما أن الشيء الوحيد الذي قدمته الإدارة الأمريكية هو فرض استمرار المفاوضات على الجانب الإسرائيلي ، ولكنها فشلت بصورة مهينة في وقف الاستيطان ، فكيف ستكون لاحقاً قادرة على الضغط باتجاه التسوية عندما نصل إلى القضايا الأكثر تعقيداً ، كالقدس واللاجئين والسيادة. ويعرف عباس أنه أصبح وحيداً ، فلا قاعدة شعبية تدعمه في هذه المفاوضات ، كما أن هناك تهاوناً عربياً واضحاً تمثل بإعطاء لجنة المتابعة العربية الغطاء لإطلاق المفاوضات المباشرة ، أضف إلى ذلك حالة الانقسام الفلسطيني المحزن الذي لا يبشر بأي نوع من المصالحة. وإزاء هذه الصورة ألح عليّ سؤال: لماذا هذا الضغط الأمريكي لتحقيق السلام؟ فليست هناك أرضية أو عوامل يمكن أن تؤدي إلى نجاح هذه المفاوضات ، يجيب الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في كتابه الذي يحمل عنوان"فلسطين سلام لا تمييز عنصري" بقوله:"لقد أصبح حل -ما يسمى - بالصراع العربي الاسرائيلي مصلحة أمريكية عليا لعدة أسباب ، فاستمرار الصراع سيزيد من بروز نجم حماس وحزب الله وإيران ، وهو بيئة خصبة لما يسمى بالإرهاب الإسلامي ، وإن العمليات التي تحدث ضد الولايات المتحدة في العراق أو أفغانستان تحظى بتأييد شعبي ، كما أن استمرار الصراع أحرج أنظمة عربية بسبب عدم استجابتها لتطلعات شعوبها في تحرير فلسطين وعلاج أزمة هويتها وإرساء الحريات والديمقراطية ، كذلك تؤمن الولايات المتحدة بأن تحقيق السلام كفيل بتحقيق الاستقرار في المنطقة وتحسين صورة أمريكا في العالمين العربي والإسلامي". إذاً ، ما زالت الفرصة سانحة أمام العرب لخدمة قضاياهم وتلبية تطلعات شعوبهم وتحسين مواقفهم التفاوضية ، ولكن عليهم الإفادة من أوراق عديدة يستطيعون اللعب بها ، وثمة مواقف يمكنهم أن يعلنوها فتغيّر من الكثير ، وهذا أمر مشروع خاصة وأننا أمام عدو لئيم ماكر ، فكما يقول رسولنا الكريم (ص): "الحرب خدعة" ، وأذكر قصة تشرشل عندما زار قبر أحد السياسيين فوجد على قبره لوحة كتب عليها: "هنا يرقد السياسي الأمين" ، فعلّق تشرشل: كيف يدفن رجلان مختلفان في مكان واحد؟ هذا ما نريده من ساسَتًنا إزاء هذا العدو: كل المكر والدهاء ، وأولى الخطوات في هذا السبيل هي المصالحة الفلسطينية ، وحشد موقف عربي حازم موحد ، وتشكيل معارضة حقيقية فاعلة تستخدم كورقة ضغط في المفاوضات. سيذهب أبو مازن إلى المفاوضات المباشرة في بداية ايلول ، ولكنها ستكون مضيعة للوقت ، وترسيخاً للأمر الواقع المتردّي ، فلا العدو راغب في السلام ولا مستعد للمساومة ، ولا الشريك الأمريكي يستطيع فرض إرادته سوى علينا ، "ويمكرون ويمكر الله ، والله خير الماكرين".
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة اسماعيل الشريف جريدة الدستور