وجه أبي
الكاتب : محمد عباس داود: مصر
حين لحظة الفراق، ارتبك، عيناه لا تملان النظر إليّ، كانتا سوداوين من قبل، الشيب غزاهما أيضاً، لون الحدقتين الرمادي يطالعني واهناً، أسمع همساته: ستمضي الآن؟
أحني رأسي، احتضن كفيه، هذا الغياب أرفضه، كلما مضيت عنه أعيش والألم، أؤنب نفسي كثيراً لانشغالي عنه، أتساءل كلما فارقته هل أنا ابن بار به، يعتصر السؤال نبضاتي، العمل بعيد عنه رغماً عنى، لم أكن يوماً أقصد الترحال، قريتنا صارت طاردة لشبابها، تلفظهم لفظاً إلى المدن المحيطة، أو إلى العاصمة ذاتها، هناك نجد الأماكن مشرقة، العمل فاتح ذراعيه والنقود شمسها لا تغيب، نعود بها إلى قريتنا، تنير دورنا، تملأ حجراتها بالخير، تجعلنا نرى الحياة بمنظار أرق، وربما تفاخرت عائلة على أخرى بعدد أبنائها وعملهم، وما يعودون به في كل مرة من أشياء تظهر للعيان، وتتحدث عن أصحابها، وعن عملهم البعيد الذى فتح لهم أبواباً ونوافذ على النعيم الذى كانوا قبلاً يسمعون عنه ولا يحلمون برؤيته.
تلونت حدقتاه بلون الأسى:
- ابق قليلاً.
أعرف أنه يبقى وحده في الدار، يؤنسه صمت الجدران، يجد في المسجد القريب ملاذاً وسلوى، يعيش بانتظار عودتي، أنا أيضاً أحسب الأيام أملاً في العودة إليه، أبقى هناك في عملي وحيداً رغم اشتراكي في السكن مع بعض أبناء القرية، دنياي تتجسد في أمرين: العمل والنوم، لا أعرف من معالم المدينة التي أعمل بها إلا طريقاً واحداً، هو الذي أسلكه صباحاً إلى العمل، وحينما تغرب الشمس أعود منه إلى مسكني.. في قريتي أحفظ الدروب، أعرف رائحة الهواء، أصادق التراب المتناثر هنا وهناك باختلاف كثافته ولونه، أعرف كل وجه يطأه واستريح للصمت حينما يدور في الطرقات ليلاً، وأرى دوماً وجه أبى.
حدقت في براح عينيه، شيء ما فيهما يهمس بنداء يهزني، يجبرني على الإنصات إليه، مذ رحلت أمي يصر على وحدته، يرفض دخول غيرها دارنا، يقول ضاحكاً يكفيني ريح ولدى، لذا عشنا معاً، حياتنا بيضاء، يملأ لحظاتها سكينة في نفسينا، تمنحنا رضا عن ذلك الصمت المتربص بنا في أنحاء الدار بعد غياب أمي، كان دوماً يحيطني بجناحيه، أشعر بالدفء والرضا، رأيت الرجال يغادرون القرية للعمل، قالت زوجتي التي اختارها لي منذ أيام قليلة:
- هي فرصة نغير بها لون حياتنا.
فاتحته في الأمر، رغم ألمه بالفراق لم يرفض، اليوم بعد أن ودعتها أتيت إليه، وكأنني أتيقظ على حقيقة تاهت عبر دروب حلم طال.. رأيت وجهه، قرأت فيه ما لم أقرأه من قبل، ضممت يديه بين يدي، شعرت أن الأمر لم يعد نداء صامت ينطلق من حدقتين قارب ماؤهما على الجفاف، بل هو أمر يجب أن أطيعه وفوراً، عاود صوته نبراته النحيلة الهمس:
- ابق قليلاً.
قبلت رأسه في هدوء: لن أرحل ثانية
|
المراجع
www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=1804موسوعة الأبحاث العلمية
التصانيف
الأبحاث
|