ولن يحوى الثناء بغير جود

وهل يجنى من اليبس الثمار

"المعري"

قامت الدنيا ولم تقعد عندما تلاعبت أم الصحف العربية ، الأهرام ، بصورة رئيس الجمهورية أثناء حفل إطلاق المفاوضات المباشرة ، ونشرت الصورة مع أحد المقالات بعد أن قُصّ الرئيس من طرف الصورة وأُلصق متقدماً على كافة الزعماء الآخرين.

ولأن الصورة خير من ألف كلمة ، أصبحت الأهرام نفسها محور الأخبار ، وتصدرت الحادثة محركات البحث ، وعلّق عليها آلاف القراء وتناولتها وسائل الإعلام الأجنبية في مختلف أنحاء العالم ، وبعد أيّام برر رئيس تحرير الأهرام بأن الصورة كانت تعبيرية،.

قبل سنوات ، جمعني أحد المؤتمرات بواحد من الضباط المسؤولين عن الإعلام في إحدى الدول العربية ، وفي جلسة (صفا) - كما يقال - تحدثنا بصراحة ، فقلت له أن الإعلام الرسمي العربي يشهد تراجعاً سريعاً وهروباً من الناس ، بسبب التدخل الذي تمارسه المؤسسات السياسية ، ففي ظل الانفتاح الإعلامي غير المحدود وظهور الإعلام التفاعلي لم يعد الإنسان العربي متلقياً للأخبار بل أصبح مساهماً في الخبر إن لم يكن مصدراً له ، كما أنه في هذا العصر وفي ظل فوضى الإنترنت أصبح من المستحيل إخفاء أية معلومة ، وسقط مفهوم إعلام المؤسسة ، وأضفت بكثير من الجرأة ، يكفي استهتاراً بالمواطن العربي.

بهدوء شديد أجابني: "المشكلة ليست فينا ، وإنما في المسؤولين عن إدارة وسائل الإعلام الرسمية ، صحيح أننا نريد إعلاماً موضوعياً يخلو من المبالغة والتهويل في زمن يعج بالأقلام المأجورة والأخبار الملغومة ، ولكننا لا نريد إعلاماً (ملجوماً) أيضاً ، فالخوف والضوابط في الإعلام داخليان ، وتمجيد السياسيين وإسكات صوت النقد تنفذ بقرارات إدارية داخل المؤسسات الإعلامية ، وكثيرا ما تكون حماية أو تملقاً من أجل مصالح ضيقة. فالقائمون على مؤسسات الإعلام هم الذين يسجنون أنفسهم".

وجهة نظر هذا الضابط مقنعة إلى حد كبير ، ولكنها تتناقض تماماً مع قصة أخرى مشهورة يرويها أحد النقباء الصحفيين العتاولة ، الذي ألم به عارض صحي في إحدى الدول الشقيقة ، فخضع للعلاج في احد مستشفياتها ، وعندما زاره صديقه رئيس التحرير السابق لإحدى الصحف الرسمية ، لاحظ أن أسنانه الأمامية مفقودة ، فسأله عنها ، أجابه وهو خجلان وبعبارة واحدة لخصت الإعلام في ذلك البلد: "لا شيء.. بسيطة.. ابن الرئيس تذكرني" ، ليتبين فيما بعد أن الجهات إياها لم تعجبها صورة للرئيس نشرت على صدر الصفحة الأولى ، فخلعت أسنانه بالكماشة.

وبصرف النظر عن التناقض الشديد بين القصتين وتحميل كل جهة المسؤولية للأخرى ، تبقى صورة الأهرام هي الشاهد على أزمة الإعلام العربي الرسمي ، الذي لم يستطع الاستفادة من التطور العلمي وثورة الاتصالات إلا في الشكل دون أن يتأثر الجوهر ، وظل الخطاب هو نفسه الذي كان سائدا في حقبة السبعينيات والستينيات من القرن الماضي ، واختصر في بعض البلاد لينشغل فقط بنشاط وأقوال رأس الدولة ، وحاولت بعض وسائل الإعلام اجتناب السلطة والتركيز على الترفيه والتسلية ، فغابت القضايا القومية العربية عن صدارة أخبارها ، وغاب عنها الموقف السياسي الذي يعبر عن الشارع ، لتحل محله أخبار الرياضة والفنانين ، والمحصلة واحدة وهي أن وسائل الإعلام كرست للأسف الهوة الكبيرة بين الأنظمة وشعوبها.

نشكر الأهرام على تسببها بدون قصد في تحريك قضية الإعلام الرسمي ، لعلها تكون نقطة نظام لكافة من له علاقة بالإعلام الرسمي لتحديد رسالته وتقييم أدائه والنهوض به وأخشى أن يأتي يوم لن يكون فيه متلق لما تبثه وسائل الإعلام الرسمية.

وللسخرية ، ذكرني الضابط الكبير بالمثل العربي الذي يقول: "كل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده" ، فكثرة المبالغة في إنجازات السياسيين تسيء إليهم وتنفر الناس منهم.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   اسماعيل الشريف   جريدة الدستور