«ليس ثمة سعادة وشقاء بالمطلق، وإنما تفكيرنا هو الذي يشعرنا بأحدهما» ديكارت
قال لي ابن عمي، مللتك ومللت الأغاني القديمة التي تسمعني إياها في السيارة فأنت ما زلت تعيش في الماضي، تشارك صورا على الواتس آب تحت عنوان الزمن الجميل لسلع ومنتجات بادت، وتتبادل مع الأصدقاء على مواقع التواصل الاجتماعي مقالات تزيد من حنيننا تحت نفس العنوان، حين كان التلفزيون الأردني ينهي بثه مبكرا، وعصير التفاح كان له طعم آخر، وسميرة توفيق كانت الأكثر جرأة بغمزتها، إلى آخره
ولكن في الحقيقة، لو توقفنا عن البكاء على الأطلال، لوجدنا أنفسنا نعيش حياة أفضل من ذلك الزمن الجميل، فنحن نأكل ونلبس ونتسلى أفضل بكثير من معاصري الزمن الجميل، والمكيفات والسيارات ورحلات السفر ووسائل الراحة قد أصبحت متاحة لشريحة أوسع من الناس، وقد تبرهن لنا على صحة ذلك الأرقام والمؤشرات الاقتصادية، من زيادة الناتج القومي ومتوسط عمر الإنسان.
إذن لماذا هذا الحنين إلى الماضي؟
سأحدثكم عن قصة حقيقية قد تحمل التفسير |
إذا مررت ليلا بالطائرة فوق الكوريتين – الشمالية والجنوبية – ستلاحظ بقعة سوداء كبيرة بحجم بريطانيا، وبقعة أخرى متوهجة أسفل منها، المظلمة هي الشمالية والمضيئة هي جارتها الجنوبية.
ثلاثة وعشرون مليون إنسان يعيشون في تلك البقعة المظلمة، فكوريا الشمالية تأثرت بانهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان يمدها بالوقود الرخيص، فسقطت هذه الدولة في خضم الدول الفاشلة بعد أن كانت تصنف ضمن الدول المتقدمة.
«مي ران» نشأت وترعرعت في كوريا الشمالية، ثم هربت مع أهلها إلى كوريا الجنوبية، تروي عن حياتها في هذين النقيضين، فتقول في حياتها في الشمالية إنهم عاشوا في فقر شديد، في منزل من غرفة واحدة على شكل صندوق خرساني، كانوا يتنقلون على أقدامهم يلبسون لباسا موحدا باهتا، يذهبون إلى النوم الساعة السابعة مساء لانقطاع الكهرباء، وهي كفتاة كان يمارس ضدها أقسى أنواع التفرقة، فقد كانت الفتيات يأكلن على الأرض وجبة مكونة من الذرة المهروسة، فيما كان الرجال يأكلون الأرز على الطاولات، وكان مستحيلا على الفتى الذي أحبته أن يتزوج منها بسبب الفوارق الاجتماعية، أما أقسى تجربة ترويها فهي مشاهدتها لخمسة من تلاميذها يموتون جوعا.
ثم تقارن ذلك بحياتها في كوريا الجنوبية، فهي تعيش في مدينة فيها أكبر الشركات في العالم، تتمتع بالترف والرفاهية، والمتاجر الفارهة، ووسائل الراحة.
ولكن مع هذا كله ترى أن حياتها السابقة كانت أجمل |
لماذا؟ حاول أن تجيب قبل أن أكمل.
تقول إن السبب في ذلك، أنها كانت تعتقد أن كل العالم يعيش على غرار حياتها، فوسائل الاتصال بالعالم كانت مقطوعة، وصدّقت كغيرها الإعلام الدعائي من أن جارتها الجنوبية تعيش في فقر مدقع بعد أن أصبحت ألعوبة بيد الأمريكان، وأن الصينيين في مجاعة بعد أن تخلوا عن الطريق القويم، وأنها تأتمر بكل فخر واعتزاز، بأوامر الزعيم الشمس ابن الإله؛ وكانت كالببغاء تعيد على مسامع طلابها جملا رنانة مثل سنعمل ما يقوله الحزب ولا يوجد ما نحسد العالم عليه.
إذن، الأمر كله مقارنة، ففي الجنوبية صحيح أنها تعيش في رفاهية ولكن هنالك آخرون يعيشون في رفاهية أكبر، أما في الشمالية فكانت تعتقد أن ما تعيشه هو النمط الوحيد السائد في العالم.
وكذلك نحن، فقبل عشرات السنين كان معظم الناس يعيشون في نفس المستوى المعيشي، فالفقر عام والسلع شحيحة، أما وقد دخلت الرأسمالية الشرهة وحولتنا إلى عبيد للاستهلاك، أصبحنا نعيش بشكل أفضل، ولكن، مقارنة بمن | فالأمر كله نسبي.
هل أقنعتكم، لا أظن، ولكنها وجهة نظر فيها قدر قليل من الصحة.
على أية حال تقول الدراسات النفسية أن الأشخاص الذين يتمتعون بذكاء اجتماعي يعيشون في الحاضر، ولا يكنون للماضي ذلك الحنين.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة اسماعيل الشريف جريدة الدستور
|