نحتاج الى مخزون من التسامح بينما تتلقفنا الامواج وتعتصرنا العواطف المكبوتة. كم نحن بحاجة إلى الترحال، بعيدا عن تزاحم الأحداث وتقلب الأحوال وانقلاب المواقف. واذا لم نتمكن من الرحيل بأجسادنا فبعقولنا اذن، الى منطقة نائية في فضاء الزمن حيث لا تهرم الاشياء. هناك قد نتواصل مع انفسنا: من نحن حقيقة وما الذي نريده من هذه الحياة؟ اقتفي أثر طفولتي الى تلك الايام الكسولة حيث يتعثر الزمن ويتوه عنا. اريد ان اعود الى الفصول المتكئة على نفسها كبيوت حجرية قديمة في القرية الوادعة القابعة في حضن جبل اخضر يرمق السماء والماء والغابة معا. اريد ان اعبث بالوان الحياة؛ ازرقها واحمرها واصفرها واخضرها، ابعثرها على الارض واتأمل اختلاطها وتشابكها. اريد ان اخلع عني حمل سنوات من التعب والجري وراء السراب. اريد ان ارخي جفوني واحلم بليلة ماطرة وعواء ريح واقتراب سحابة سوداء من سفح تلة كادت تنوح منادية المطر.

كم نحتاج من مخزون الحب كي نبدأ رحلتنا تلك؟ تنوء اجسادنا بما تحمله من سنين مرت كالحلم. نستفيق فيذهب الحلم وتبقى السنون تثقل كاهلنا. يترك الزمن علاماته على وجوهنا، كأثر السنابك على تراب بني مسحت جبينه قطرات المطر العابرة. هناك في مكان بعيد نسمع رجع الموسيقى واناشيد رفاق الصبا ونرى بعضا من احلامنا العالقة على اغصان شجر السرو.

هل نهم بالرحيل؟ من اجل ماذا؟ من أجل الحب وقليل من التسامح في زمن لا يرأف باحد. ثم نسأل انفسنا: من نحن حقيقة؟ هل تغير الزمن الى هذه الدرجة؟ نعم، كم من الحب بقي في حياتنا؟ ويفجعنا الجواب القادم من اسفل الوادي. من هناك؟ رجع الصدى ولا شك تمر ثقيلة هذه الايام. هي ليست كما مر من الايام: اتذكُرْ؟ أسال نفسي التي ارى صورتها في مرآة العمر. اتذكُرْ؟ تلك القصيدة المجنونة التي اندلقت على طاولة بيننا ونحن نستلهم الماضي؟ اتذكُرْ؟ بحنا بالكثير في تلك الليلة وكأن الليل حياة اخرى، نفق طويل لا قرار له. اتذكُرْ؟ وادي شعيب وشمس الربيع وغدير خجول يتسلل بحذر عبر تضاريس الوادي السحيق. كان لدينا رصيد وافر من التسامح: لم تسلبنا الحياة تلك الاشياء؛ الرجولة والكرامة والصدق والوفاء مات ذلك الربيع في ريعانه وافتدى نفسه بشقائق النعمان المتناثرة على صدر الجبل المترهل.

لم يتبق الكثير من الحب والتسامح داخلنا. كاننا ارض يباب تنازع آخر ايامها. لذا وللخلاص من كل ذلك لابد من الترحال، من السفر الى حيث تعيش الاحلام، الى حيث مزق من احلامنا تتعلق باشجار السرو، الى حيث تستحي الشعارات وتتراجع بخجل، الى حيث نجد مؤونة ما تبقى من اعمارنا من الحب. نحتاج الى كل ذلك، الى صدى الايام التي فاتتنا والى نوم عميق يفضي الى طمأنينة فقدناها. نحتاج الى الرحيل ان لم يكن جسدا فمن خلال الروح، لنسافر كالعصافير غير مبالين بما نترك وراءنا


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   أحمد جميل شاكر   جريدة الدستور